السودان وعودة الأمل
المنظر ربما لم يكن متخيلاً قبل سنة مضت. ففي قاعة الصداقة بوسط الخرطوم، رفع رئيس المجلس العسكري السوداني عبدالفتاح البرهان وممثل قوى الحرية والتغيير أحمد الربيع الوثيقة الدستورية التي تحدد الخطوات الآتية على مدى السنوات الثلاث المقبلة، للانتقال إلى حكم مدني ديمقراطي، وسط أجواء فرح عارمة، لدرجة أنهم أطلقوا على الوثيقة "فرح السودان".بالطبع سيحتاج السودان إلى الكثير لكي يخرج إلى بر الأمان وتحقيق الاستقرار والتقدم والنمو الاقتصادي والحرية، ولكنها خطوة أولى.هل هي مصادفة أن البلدان العربيان الوحيدان اللذان تمكّنا من إطاحة حاكمين دكتاتوريين، ولايزالان مستمرين في الإصلاح السياسي، كانا بلدين إفريقيين هما تونس والآن السودان؟
ولعل ذلك يفتح باب الدور الذي لعبه الاتحاد الإفريقي، حيث علّق عضوية السودان منذ يونيو الماضي. كما كان دور رئيس الوزراء الإثيوبي أبي أحمد فاعلاً في تقريب وجهات النظر، على الرغم من المصاعب التي يعانيها في بلاده. فلا عزاء لنا في مؤسساتنا كالجامعة العربية أو حتى مجلس التعاون الخليجي.عندما بدأت الثورة السودانية في ديسمبر الماضي، استخفّت السلطة العسكرية السودانية ذات التوجه الإسلامي، مثلها مثل غيرها، بالثوار واتهمتهم بكافة الاتهامات؛ من الخيانة العظمى إلى العمالة الأجنبية. حينها التقيت في أوروبا أحد أصدقائي السودانيين القدامى، وله ارتباط بتجمّع المهنيين، سألته: كيف الحال هذه المرة؟ قال: هذه المرة حاسمة، لن نتوقف حتى النهاية. وهكذا كان؛ بل كانت تجليات الثورة السودانية وإبداعاتها لا يشق لها غبار، وكان دور المرأة أساسياً، ليست أختاً لأحد، ولكن فاعلة أساسية مثلها مثل الرجل وتجلت "كنداكة" كما ينبغي لها أن تتجلى. الملاحظ على المفاوضين، بعد النظر، والرؤية الشاملة لنظام الحكم الديمقراطي، والمرونة، التي جعلتهم يقبلون بقضايا تبدو أنها تنازلات، مثل القبول باعتراض المجلس العسكري على مرشحهم لرئاسة القضاء، وعدم الإصرار على محاسبة أعضاء المجلس العسكري المشتبه فيهم بقتل قرابة ٢٥٠ من المتظاهرين، وفي المقابل الإصرار على عدم منحهم حصانة من المحاسبة، كما حدث مع سقوط نظام أوغستوس بينوشيت في تشيلي.ربما كان من دلالات النضج السياسي عدم الاستعجال وعدم حرق المراحل، فهناك مدة ٣ سنوات، وكأن كل سنة بعشر سنوات عجاف حكمها النظام السابق الذي هيمن على البلاد وقادها إلى خراب ما بعده خراب.مهمة رئيس الوزراء عبدالله حمدوك عسيرة وصعبة، والطريق القادمة مليئة بالمخاطر، وانعدام الثقة حاضر بقوة من واقع تجارب سابقة، إلا أن ضابط العملية برمّتها صار محكوماً بإرادة الشعب عند حدوث أي انحراف.نتمنى كل الخير للشعب السوداني برمته، فتلك النجاحات تطرح أملاً للشعوب العربية للخروج من حالة الاستلاب التي تعيشها.على المستوى الشخصي، نفتقد في هذه المرحلة الصديق الراحل د. أمين مكي مدني، الذي انتقل إلى رحمة الله، بعد ضغوط النظام السابق وإيداعه السجن، على الرغم من اعتلال صحته. كم كنت أود لو أنه كان موجوداً، وغيره من المناضلين الذين كانت عطاءاتهم دافعاً للحراك الذي ينتظر الشعب ثماره، وإلا فالطريق للشارع صار عنوانه معروفاً.