إذا أردت اسماً يرتبط بالماس فلن تجد أكثر من «دي بيرز» ليكون بمثابة مُرادف وليس فقط اسماً مرتبطاً بالماس... هذا ما يؤكده «بول زيمنسكي» أحد أبرز خبراء الأحجار الكريمة في العالم، مشيراً إلى أن وضع سوق الماس في العالم كان غريباً بسبب شركة «دي بيرز» التي تمتعت بوضع استثنائي.وتاريخياً، انطلقت تجارة الماس في الهند والبرازيل، حيث تم اكتشاف خاماته لأول مرة، قبل ظهور جنوب أفريقيا بما فيها من خام الماس بكميات كبيرة، ودخول دول أخرى مثل الاتحاد السوفيتي وبوليفيا على سوق الإنتاج.
البدايات
وبدأت قصة «دي بيرز» مع رجل الأعمال البريطاني «سيسل روودز» الذي دخل الصناعة أولاً عن طريق تأجير مضخات مياه للعاملين فيها بجنوب أفريقيا قبل شرائه لحقله الخاص من الماس، قبل أن يستشعر وجود إمكانية للتوسع في هذا المجال ليقوم بشراء أكثر من حقل، بما فيهم حقل كبير لأخوين يحملان اسم «دي بيرز».وفي عام 1880 قام بشراء شركة منافسة وضم معها مواقع الإنتاج التابعة له ليشهر شركة «دي بيرز» للتعدين، وفي ظرف أعوام قليلة تمكن من الاستحواذ على إنتاج كافة مناجم الماس العاملة في جنوب أفريقيا، ليبدأ رحلة احتكار الماس عالميًا باحتكار إنتاجه في الدولة الأفريقية.وسعياً وراء التحكم في الأسواق قامت «دي بيرز» بعمل «نقابة الماس» والتي سعت إلى التحكم في عرض الماس والطلب عليه عالمياً، وأسست فروعاً لها في مختلف أنحاء العالم، بعد انطلاقها من لندن عام 1888.وانضمت الكثير من الشركات والأفراد إلى «دي بيرز» في مسعاها للتحكم في سوق الماس، وكان الهدف واضحاً للغاية: خلق حالة من الندرة تحافظ على سعر الماس مرتفعاً وتجعل التحكم في العرض سهلاً، بل حتى تتيح التحكم –في هذه المرحلة- فيمن يحصلون على الماس ومن لا يحصلون عليه.المؤسس الثاني
وفي عام 1902 توفي «روودز» مؤسس الشركة، وتركها في وضع رائع، حيث استحوذت على قرابة 90% من سوق الماس عالمياً غير أن «إرنست أوبنهايمر» هو من قام تحويل الشركة إلى إمبراطورية عالمية.فبوجوده عضواً في مجلس إدارة «دي بيرز» ثم رئيساً لمجلس إدارتها منذ عام 1927 قام بعمل عقود احتكارية تمنع على موردي الماس للشركة ومشتريه منها التعامل مع غيرها، مما وطد من موقع الشركة الاحتكاري بشدة.وعلى مدى بقية القرن العشرين واصلت الشركة عملها بهذا الشكل، فهي تشتري الأغلبية الكاسحة من الماس الخام، وتحدد الكمية التي تريد طرحها في الأسواق والسعر الملائم للبيع، وبالتالي كانت ما يعرف في الاقتصاد بحالة الاحتكار الكامل.وبسبب الكساد الكبير وتداعياته عانت الشركة من صعوبات كبيرة للغاية في تسويق الماس واضطرت لخفض سعره، بما دعاها للتعاقد مع وكالة علاقات عامة ودعاية من أجل تسويق الماس «جماهيرياً» وتضمن ذلك إظهار الخطيب لحبه لزوجه المستقبل بحجم الماسة التي يضعها على خاتم الزواج، وساهمت في عمل «صرعة» في الولايات المتحدة وأوروبا في هذا الاتجاه.ذكاء تسويقي
كما قامت الشركة بما تصنفه «بيزنيس إنسيدر» بأحد أكثر الحملات الإعلانية نجاحًا في التاريخ، من خلال إعلانات «الماس يبقى للأبد»، بل وعلى سبيل المثال فإن اليابان لم تكن تسمح بإدخال الماس إليها حتى نهاية خمسينيات القرن الماضي، غير أن تسويقه بوصفه «دليل الحداثة الغربية» أدى لارتداء 60% من العرائس اليابانيات لخواتم منه في بداية الثمانينيات في دلالة واضحة على نجاح حملات الدعاية.وشهد احتكار «دي بيرز» للماس تحديات قليلة، بسبب سيطرتها المطلقة على الأسواق وصعوبة بروز منافسين في ظل هذه الحالة، غير أن التحدي الأكبر كان بظهور الماس في الاتحاد السوفيتي أواخر الخمسينيات، وبتسوانا في نهاية الستينيات.وفي الحالة السوفيتية، قامت الشركة بدفع ملايين الدولارات للحصول على حقوق استغلال الماس كاملة في الدولة الشيوعية، على الرغم من صغر حجم الماسات السوفيتية النسبي إلا أن الهدف للشركة بقي السيطرة حتى على الإنتاج الأقل أهمية.أما في حالة بتسوانا فإن جودة الإنتاج وكثافته دفع الشركة للموافقة على منح الدولة الأفريقية 15% من أسهمها بالكامل في عام 1969 قبل أن تعيد الاستحواذ على بعض تلك النسب على مر الزمن وتحصل على الماس.اتساع السوق
ومع اتساع سوق الماس باستمرار أصبحت سيطرة «دي بيرز» عليه بنسبة 100% عسيرة للغاية، بسبب وجود دول أفريقية تتعامل معه كمصدر سيادي للثروة، فضلاً عن ظهور السوق الأسود للماس، أو ما يعرف بالماس الدموي المستخدم لتمويل الحروب في أفريقيا، قبل أن يتم «تنظيفه» ليدخل الأسواق المشروعة قانونياً.غير أن الأزمة الكبرى التي واجهت «دي بيرز» كانت في تفكك الاتحاد السوفيتي في عام 1991، إذ رفضت وريثته، روسيا الاتحادية، التعامل مع الشركة، بما قلص حصتها من 89% من السوق العالمي إلى أقل من 80%.ثم توالت المصائب على الشركة، ففي عام 1994 صدر ضدها قرار محكمة أمريكية يدينها بتهمة التلاعب الاقتصادي بهدف الاحتكار وعانت من غرامات، والأسوأ كان تضرر سمعتها، وعلى إثر ذلك بدأت حركة «مقاومة» لاحتكار الشركة.وتضمن ذلك منع مناجم أستراليا بيع الماس الخام للشركة، وتقليص كندا لحصة الشركة من 100% إلى 35% عام 1996 قبل أن تقرر في 2003 عدم بيع الخام لها مطلقاً، وفي 2009 توقفت روسيا كذلك عن بيع منتجاتها للشركة بعد أن عادت لبيع نسبة منها قبل 3 أعوام.أخطاء
هذا عن العوامل الخارجية، أما عن أخطاء الشركة فكان منها إنهاء حملة «الماس يبقى للأبد» في عام 2008، بدعوى عدم فاعليتها رغم معناها المؤيد لامتلاك الناس المستهلكين التقليديين للماس وارتباطهم بها.كما باعت الشركة أكثر من منجم رئيسي لمنافسيها في ظل تقديرات غير دقيقة عما يمكن استخراجه من هذه المناجم، ولم تتحوط لاستنزاف المناجم المملوكة لها والكثير منها استهلك خلال الأعوام العشرة الأخيرة بالفعل.وبحلول 2019 تراجعت نسبة «دي بيرز» من السوق إلى 36% فحسب، لتسهم عوامل عدة في الإجهاز على قصة احتكار تصفها «فوربس» بأنها «الأطول في التاريخ»، وإن كان يبدو من عدم تعرض الماس لاهتزازات سعرية عنيفة جراء ذلك أنه تحول من احتكار شركة واحدة، إلى آخر جماعي لمجموعة محدودة من الشركات.