هتلر... بين الاستعمار والاستعباد
لم تكن ألمانيا النازية، كما يتوهم بعض المثقفين والساسة في العالم العربي وغيره، أو كما يزعم بعض الإعلاميين الانتقائيين، "مجرد قوة أوروبية استعمارية" أخرى مثل إنكلترا وفرنسا، جاءت متأخرة وحاولت أن تنافس من سبقها. فقد كان هدف الإنكليز والفرنسيين استعمار الدول والشعوب لا استعبادها. ولم تكن إنكلترا أو فرنسا نظاماً قائماً على أيديولوجيات عنصرية وحزب دكتاتوري وأجهزة بوليسية في قوة "غستابو" هتلر وهملر... في مثل النظام النازي!كانت ألمانيا النازية نظاماً دكتاتورياً عنصرياً اجرامياً، مبنياً على القوة البوليسية، وعلى "تفوق الجنس الآري" المزعوم، يريد سحق من يقع تحت نفوذه، كما رأينا بوضوح في تدمير واستعباد بولندة والاتحاد السوفياتي وقتل ملايين المدنيين وحرق قراهم ومدنهم بأبشع الطرق ودون مبرر سوى إلقاء الرعب في قلوب الناس، وإلا فما الداعي إلى قتل ملايين المدنيين البولنديين والأوكرانيين والروس؟! وقد عرفت أوروبا ودول آسيا وإفريقيا نماذج من التوسع الاستعماري في العصور الحديثة، واستفادت دول كالهند من بعض إرثها البريطاني كالدستور والسكك الحديدية والإدارة السياسية، وكذلك مصر وبعض دول الكومنولث الحالية. وكانت فرنسا منذ زمن نابليون متأثرة حتى في غزو مصر بقيم الثورة الفرنسية، وكانت تحاول "فَرْنَسة" شعوب ودول المستعمرات وغير ذلك. ولا يمكن بحال مساواة سياسات الاحتلال النازية وجرائم هتلر بسياسات بريطانيا وفرنسا، لاسيما أن هتلر لم يقدم على ما أقدم عليه وما اقترف من جرائم في ألمانيا وبولندة والاتحاد السوفياتي وغيرها وما فعل بمعارضيه وباليهود وغير ذلك، عن اضطرار أو دفاعاً عن النفس، بل بناء على أيديولوجية عنصرية وانتقام قومي وعن سبق إصرار وترصد!
ومن المؤسف أن ثقافتنا السياسية والإعلامية في العالم العربي لم تهتم بكل هذه الفروق والتفاصيل منذ نهاية الحرب العالمية الثانية عام 1945 إلى اليوم.كان هتلر شخصاً مريضاً معقداً يحمل في داخله كَمّاً لا حد له من الحقد والكراهية والعداء، ولم يكن صراعه مع الإنكليز أو الفرنسيين منبعه التنافس الاستعماري، فالواقع أنه لم يكن يحترم أي شعب في أوروبا أو خارجها عدا الجنس الجرماني الذي لم تكن كل مواصفاته تنطبق حتى على هتلر نفسه! فقد كان من مواليد النمسا، وشكك البعض في أن اصوله ليست جرمانية. وكان هتلر يبرر علناً توسع ألمانيا على حساب جيرانها كي تفسح المجال للجنس الآري الجرماني كي يلعب دوره التاريخي المنتظر، يقول في كتابه "كفاحي": "النمسا الألمانية يجب أن تعود إلى حضن الوطن الألماني الأكبر، لأن الدم الواحد هو ملك الوطن الواحد، ولن يكون الشعب الألماني ذا حق في أي نشاط استعماري ما لم يجمع أبناءه في دولة واحدة، ومتى احتوى (الرايخ) أبناءه جميعاً يُمسِ عاجزاً عن إعالتهم، ومن العوز ينشأ حق هذا الشعب في الاستيلاء على أراض أجنبية".ويقول صراحة: "إن توسعنا خارج أوروبا لا يحل المشكلة فليس المطلوب إخضاع بعض الشعوب الملونة للسيطرة الألمانية، إنما المطلوب إحراز أراض أوروبية تتسع معها رقعة الوطن الأم، ومثل هذا التوسع سيكون طبعاً على حساب الشعوب الأخرى، ونحن الألمان نجافي المنطق ونكذب التاريخ بمحاولتنا إقناع أنفسنا بأن التوسع على حساب الآخرين عمل غير مشروع". ويضع هتلر مبدأ استعماريا رهيبا عندما يضيف: "فحق الشعب في إحراز أراض جديدة يستحيل واجبا مقدسا عندما يضيق الإطار الوطني بمن في داخله، ويوشكون أن يهلكوا اختناقا"!أو انظر إلى كلامه في هذه الفقرة المغرقة في العنصرية، إذ يقول: "إن فرنسا هي العدو المميت الذي ينبغي لنا ألا نسقطه من حسابنا لحظة واحدة. إن الشعب الفرنسي الذي يهبط شيئا فشيئا إلى مستوى الزنوج، يُعرّض كيان الجنس الأبيض في أوروبا لخطر الزوال، بمسايرته مشروعات اليهودية العالمية الطامحة إلى السيطرة على العالم. إن هذا الشعب المتهتك لا يقل خطورة ورغبة عن اليهود في القضاء على حيوية شعبنا بتشجيع الأجناس المنحطة على تلقيح الألمان بدمها النجس، إن عدونا الحقيقي في أوروبا هو فرنسا. أما إنكلترا وسائر الدول الأوروبية فقد كان عداؤها لنا ظرفيا، ويمكننا أن نجعل منها دولاً صديقة يوم نبهر شعوبها مجددا بنهضتنا وحيويتنا".كان هتلر يقدس الجنس الآري ويقول عنه في كتابه: "كان الآري ولا يزال المشعل الإلهي الذي يضيء السبل أمام البشر، فشرارة العبقرية الإلهية انبعثت دائماً من جبينه المشرق وهو الذي قاد الإنسان على دروب المعرفة ودلَّه على السبل التي تجعل منه سيد الكائنات الحية على هذه الأرض، فإذا توارى الآري يغشى البسيطة ظلام دامس وتتلاشى الحضارة البشرية في بضعة قرون ويستحيل العالم قفراً". والكثير من هذه الإشادة بالآريين من خيالات هتلر وتفتقر إلى الأسس العلمية. وهذا ما تؤكده مثلاً الموسوعة البريطانية منذ بداية القرن العشرين (انظر مثلاً الطبعة التي ظهرت عام 1911 من الموسوعة)، ويُفهَم من كل ما كتب عن "الآرية"، كما يؤكد الباحثون، أنها تشير إلى مجموعة لغات أو مجموعة لغوية ذات جذور أو قواعد متشابهة، أكثر من تحديد جنس البشري أو أجناس بشرية معينة. ومهما تكن دلالات المصطلح فإن هتلر يبالغ أشد المبالغة في أن ينسب إلى الآريين كل هذه الأمجاد الحضارية متناسيا أن الحضارة بدأت بشعوب غير آرية أو سامية أو غير ذلك، في بلاد الرافدين ومصر واليمن وبلاد الشام وربما الصين قبل غيرها، منذ ستة آلاف سنة وربما أكثر.خص هتلر اليهود بأشرس هجوم، ومن سياسات هتلر التي قربته إلى قادة وساسة والعامة في العالم العربي عداءه لليهود، خصوصا أن صعود النازية في أوروبا تزامن مع إقامة "الوطن اليهودي" وإنشاء إسرائيل، وتزايد الهجرة اليهودية إلى فلسطين، وما تلا ذلك.وتشبه تعميمات هتلر بشأن اليهود مبالغاته بشأن دور "الآريين" الحضاري، ولا يعد هذا غريباً على جندي نمساوي متواضع الثقافة يتصدى لتزعم ثقافة رفيعة المكانة كالثقافة الألمانية صاحبة الدور المتميز في الفلسفة والفنون والعلوم الاجتماعية والعلوم الطبيعية.يقول هتلر في "كفاحي": "ليس لليهودي حضارة خاصة به، فأسس عمله الفكري هي إذن مستعارة أخذها من الذين أوجدوا الحضارات". ويقول: "لم يكن اليهود رحلاً قط بل كانوا ولايزالون طفيليات تزاحم الشعوب على مقومات وجودها".ولم يكن هتلر يكره اليهود في مجال السياسة والمجتمع والأخلاق فحسب بل كان ينفر منهم جسدياً، يقول: "إن بُعد اليهود عن النظافة البعد كله، أمر يصدم النظر منذ أن تقع العين على يهودي، وقد اضطررت إلى سد أنفي في كل مرة ألتقي أحد لابسي القفطان، لأن الرائحة التي تنبعث من أردانهم تنم عن العداء المستحكم بينهم وبين الماء والصابون".ومثل هذه الأحكام الانطباعية ضد بعض الأقليات، قد تقال من قبل بعض العنصريين في دول متفرقة عن الاحتكاك بالهنود أو الأفارقة أو العرب أو الإيرانيين أو الأكراد أو غيرهم.ثم إن هتلر بزعمه أن "أسس عمل اليهودي الفكري مستعارة" يتجاهل العطاء الثقافي والديني والفني والفكري لليهود، وكذا دورهم ومساهمتهم الضخمة في مجالات العلم والبحث والاختراع في إطار الحضارة الأوروبية والأميركية، وفي الأوساط الطبية والأكاديمية، وكذلك في إسرائيل التي تشتهر بأفضل الجامعات وأكبر كمية من البحوث والأوراق العلمية في الشرق الأوسط وبراءات الاختراع.ومن تناقضات فكر هتلر في هذا المجال أنه يسخر من جري اليهود خلف شعار "الشعب المختار" بينما يسعى هتلر والنازيون لإثبات أن "الآريين" هم الشعب المختار الذي ينبغى أن يتسلط على بقية البشر وتكون له الريادة الإجبارية والتميز.وما يمكن استخلاصه من هذه الانحرافات العنصرية والدعوات التسلطية عدم علميتها وتناقضاتها الداخلية وتعارضها الأكيد مع تقدم واستقرار المجتمعات والشعوب اللذين يحتمان المساواة والتعاون والاحترام المتبادل.