عندما انهار الاتحاد السوفياتي عام 1991 واجه قادة روسيا تحديات هائلة وأسئلة جوهرية حول الاستراتيجية القومية واتجاهاتها ومسارها، وما اذا كانت روسيا سوف تستمر على الخط السياسي السوفياتي السابق الذي اتسم بوضوح بالعداء للغرب، أم أنها سوف تتبع مساراً مختلفاً جداً؟ وبالنسبة الى ميخائيل غورباتشوف وهو أول رئيس لروسيا الجديدة كان الجواب واضحاً تماماً، وهو أن موسكو لن تسعى الى علاقات طيبة مع الغرب فقط بل ستصبح جزءاً متمماً من أوروبا وقد تحدث غورباتشوف بطلاقة جلية عما وصفه بـ«الوطن الأوروبي المشترك»، كما أطلق مبادرتين بعيدتين عن الخط الاقتصادي السوفياتي الاشتراكي، واتجه نحو الأسواق الحرة وعمد إلى تحويل النظام السياسي من الدكتاتورية الشيوعية الى الديمقراطية البرلمانية.

وكانت لحظة تاريخية استثنائية لافتة استوعبها قادة أوروبا والولايات المتحدة بصورة واضحة الى حد كبير، وقد أعقب تلك الخطوة اطلاق الحكومات الغربية طائفة من البرامج بما في ذلك مساعدات مالية اشتملت – على سبيل المثال – على المئات من مليارات الدولارات والمشورة الفنية (كيفية اقامة أسواق للأسهم) والمبادلات التربوية والثقافية والاستثمار. وتابع خليفة غورباتشوف السيد بوريس يلتسين المسار ذاته وفتحت الحكومات الغربية الفرصة أمام روسيا للانضمام الى عضوية النادي الحصري المتمثل في مجموعة جي – 7 بحيث تصبح جي – 8 وتضم روسيا طبعاً.

Ad

في غضون ذلك ترددت أنباء عن احتمال انضمام روسيا الى الاتحاد الأوروبي وربما حتى الى حلف شمال الأطلسي، ولكن على الرغم من كل النوايا الحسنة فقد أسفر التحول المفاجئ في روسيا عن تكلفة باهظة حيث فقدت المعامل الحكومية الضعيفة المساعدات المالية وتعرضت للإفلاس، كما أن المتقاعدين خسروا دخلهم المتواضع نتيجة انهيار برامج الرعاية، وأفضى ذلك كله الى حصول الطبقة المقربة من السلطة على أصول الدولة بشكل شبه مجاني، وبصورة مفاجئة أصبح الاقتصاد الروسي خاضعاً لسيطرة حفنة من الأثرياء الجدد الذين لم يسمع أحد عنهم قبل خمس سنوات وتعرضت المزارع الجماعية للتمزق والتفتت وغرق سكان المناطق الريفية في فقر مدقع.

ضعف مركز الحكم

وأظهر هذا مدى ضعف مركز السلطة كما أصبح يلتسين في حالة صحية سيئة نتيجة تعاطيه الكحول بكثرة، وكان أحد آخر تصرفاته الرسمية المصيرية تعيين شخص من سانت بطرسبرغ هو فلاديمير بوتين في منصب آخر رئيس للوزراء.

كان بوتين ضابطاً في جهاز المخابرات الروسي (كي جي بي) وقد سارع الى تشكيل شبكة من عناصر ذلك الجهاز لمساعدته في ادارة العمل في الكرملين، وتصادف صعود بوتين مع ارتفاع دراماتيكي في أسعار النفط والغاز وهما الصادرات الرئيسية في روسيا في ذلك الوقت على الأقل، وفجأة بدأت روسيا (أو الكرملين على الأقل) تنعم بوفرة هائلة من المال، ومع استقرار الوضع السياسي في البلاد وتحسن مستوى المعيشة تمتع بوتين بشعبية واسعة أكدتها الحصيلة الانتخابية الايجابية.

ولكن هاجس بوتين الحقيقي كان خارج حدود روسيا كما كان يكره بشدة الجهود الرامية الى تحسين العلاقات مع أوروبا والولايات المتحدة وهو يعتبر مثل تلك الخطوة مثل استسلام لأولئك الذين يتحملون مسؤولية انهيار وطنه المحبوب الاتحاد السوفياتي (وجهاز المخابرات الكي جي بي) أيضاً. ثم صمم على اعادة كتابة نهاية الحرب الباردة وعلى استعادة هيمنة روسيا في أوروبا الشرقية وآسيا الوسطى، وأراد تدمير حلف شمال الأطلسي وإصابة الولايات المتحدة بالشلل، وقد سعى الى تحقيق هذه الأهداف من خلال طرق استقاها من جهاز المخابرات والتي شملت:

1 – استخدام صادرات النفط والغاز لابتزاز الحكومات الأجنبية التي تعتمد على هذه السلع.

2 – دفع المسؤولين الأجانب من ذوي النفوذ والتأثير للعمل باسم الكرملين ولمصلحته.

3 – اغتيال المواطنين الروس المقيمين في الخارج والذين اعتبرهم من الخصوم.

4 – استخدام العمليات العسكرية الروسية السرية لزعزعة دول الجوار الصغيرة. وفي عام 2008 أظهر بوتين رغبته في هذا الصدد عندما قام بغزو جورجيا ثم أصبحت أوكرانيا بعد ذلك محور تركيزه الخاص عندما سعى الى استعادة سيطرة الامر الواقع على الجمهورية السوفياتية السابقة. وفي عام 2014 أطلقت هذه الجهود أصداء سلبية تمثلت في اثارة انتفاضة من جانب شباب أوكرانيا الذين طالبوا بإنهاء الفساد والخضوع لموسكو. وتمثل رد بوتين على ذلك في إرسال قوات عمليات خاصة الى شرق أوكرانيا وأعقب ذلك بغزو علني واحتلال لشبه جزيرة القرم. وردت الحكومات الغربية بفرض عقوبات اقتصادية على روسيا، وعندها عمدت موسكو الى ارسال مجموعة من العملاء لقتل عميل روسي سابق يقيم في لندن، وأعقب ذلك المزيد من الاغتيالات.

الهجمات السبرانية

في غضون ذلك، بدأت وكالات الاستخبارات الروسية الخاضعة لأوامر بوتين هجمات سبرانية استهدفت الانتخابات والاستفتاء في أوروبا (البريكست في المملكة المتحدة على سبيل المثال) والانتخابات الأميركية.

وفي عام 2016 نال بوتين ورقته الرابحة عندما حقق هدفه بضمان فوز المرشح دونالد ترامب بمنصب الرئاسة في الولايات المتحدة وبشكل فاق توقعات موسكو الى حد كبير، وهكذا حصل الكرملين على دمية في البيت الأبيض، ولكن التطورات اللاحقة أظهرت معارضة بقية أعضاء الحكومة الأميركية لتوجهات ترامب، وكان من نتيجة ذلك استمرار العقوبات على روسيا.

وتعتبر هذه حالة خطيرة لأن العقوبات تحرم موسكو من أسواقها الطبيعية ومصادر الاستثمار والتقنية في أوروبا. وتدعو استراتيجية بوتين الى استخدام عوائد النفط من أجل شراء التقنية والمعدات من أوروبا بغية تحديث وتقوية الجيش الروسي ولكن هذه الأصول أصبحت غير متوافرة الآن، فضلاً عن تأثير انخفاض أسعار النفط.

جدير بالذكر أن بوتين أكد للشعب الروسي أن العقوبات الغربية سوف تزول في عام 2017 وأن أسعار النفط سوف تعود الى مستويات 110 دولارات للبرميل، واليوم لا تزال العقوبات سارية وسعر برميل النفط في حدود 53 دولاراً فقط، كما أن الاقتصاد الروسي يترنح مع ازدياد مستوى الفقر.

كراهية بوتين للغرب

تستحوذ كراهية بوتين للغرب على تفكيره بقوة بحيث تمنعه من التفكير في اتخاذ خطوات نصح بها معظم خبراء الاستراتيجية في روسيا والتي شملت تحقيق تسوية حول أوكرانيا وشبه جزيرة القرم ووقف الهجمات السبرانية وإعادة بناء العلاقات الدبلوماسية مع أوروبا والولايات المتحدة كجزء من الهدف المتمثل في انهاء العقوبات الاقتصادية الغربية على روسيا. وبدلاً من ذلك، التفت بوتين نحو الصين من أجل التوصل الى اتفاقات اقتصادية جديدة ومناورات حربية مشتركة ومبيعات أسلحة ومشاورات دبلوماسية متكررة، وقد حرص بوتين على الظهور في صور مع الرئيس الصيني شي جينبينغ وهو يتوقع أن تظهر تلك الصور في وسائل الاعلام الأميركية بشكل بارز.

ولكن علينا النظر الى بعض الحقائق الأساسية التي تتمثل فيما يلي:

1 – اتسمت العلاقة بين روسيا والصين بالعداء التاريخي الذي يرجع الى قرون طويلة.

2 – يشترك البلدان بحدود طويلة شهدت سلسلة من المعارك استمرت حتى عام 1968.

3 – حجم الاقتصاد الصيني أكثر من 10 أضعاف الاقتصاد الروسي والفجوة بين البلدين في ازدياد مستمر.

4 – ميزانية الدفاع الصينية تبلغ حوالي 6 أمثال حجم ميزانية الدفاع الروسية.

5 – مساحات الأراضي الواسعة في المناطق الشرقية الروسية فارغة بينما يضغط سكانها من الصينيين للتوسع فيها.

6 – الخرائط العسكرية الصينية تظهر امتداد حدود الصين عبر سيبيريا حتى بحيرة بيكال.

7 – تشمل مبادرة الصين المعروفة باسم الحزام والطريق مجموعة من مشاريع البنية التحتية الضخمة في آسيا الوسطى – وهي منطقة تعتبرها موسكو جزءاً من أرضها.

وتجدر الاشارة الى أن النخبة الروسية تشعر بمودة طبيعية نحو أوروبا وليس نحو آسيا، كما أن الأثرياء الروس يشترون المنازل في لندن لا في شنغهاي، ويريد الطلبة الروس الدراسة في باريس لا في بكين، ويتوجه السياح الروس الى روما لا الى غوانغجو، ويتخوف قادة الجيش الروسي من الصين ولا يثقون فيها.