هل تصمد هونغ كونغ في وجه القمع الصيني؟
الفوضى أكبر تهديد للحريات! لا يتعلق السبب بالضرورة بقدرة الفوضى على توليد العنف، بل إن الخوف من غياب القانون يُشجّع على القمع عموماً.تطرح الحكومة الصينية أكبر تهديد للحريات في هونغ كونغ، لكن الناشطين يزيدون احتمال توسّع حملات القمع، لأنهم يجعلون حكم البلد مستحيلاً، ومن المتوقع أن تفضّل بكين العنف على الشغب.لطالما عاش سكان هونغ كونغ تحت حكم استبدادي سلمي بدل النظام الديمقراطي البرلماني، لكنهم كانوا يتمتعون بالحريات المدنية البريطانية وحققوا الازدهار بفضل أهم اقتصاد حر في العالم، لقد حَمَتهم المقتضيات التاريخية من الفقر المترتب على حملة «قفزة التقدم الكبرى» الصينية وجنون الثورة الثقافية.
لكن لكل نجاح نهاية على ما يبدو! انتهى عقد تأجير هونغ كونغ الممتد على 99 سنة في عام 1997، وكان يمكن أن تحاول لندن نشر الفوضى في جزيرتَي هونغ كونغ و»ستون كاترز» وشبه جزيرة «كولون»، فقد تم التنازل عنها بدل تأجيرها، لكنها احتفظت بحوالى 14 في المئة من أراضي المستعمرة، وما كانت بكين على الأرجح لتتابع الخضوع لمعاهدات غير منصفة بناءً على نزعة إمبريالية بالية. وكان يمكن أن تخوض بريطانيا أيضاً لعبة جيوسياسية خطيرة، فتدعو إلى إجراء استفتاء حول مستقبل تلك الأرض. كانت تلك الخطوة يمكنها أن تُمهّد لنشوء مواجهة محتدمة، حين تشعر جمهورية الصين الشعبية أخيراً بأنها قادرة على تحقيق مصالحها الجيوسياسية كاملة.
وطن بنظامين
لكن بريطانيا فضّلت التفاوض على إعادة هونغ كونغ إلى الصين، إذ تعهدت بكين بالحفاظ على وضع المراوحة، مما يعني التمسك بما يُسمّى «المنطقة الإدارية الخاصة». هكذا شكّلت هونغ كونغ اختباراً للنموذج الصيني المزعوم المبني على وطن واحد بنظامَين، ومن المقرر أن تحتفظ «المنطقة الإدارية الخاصة» بامتيازاتها الاستثنائية طوال نصف قرن، حتى عام 2047.على مر أكثر من عشر سنوات، التزمت جمهورية الصين الشعبية بوعدها، وقد صرّح أحد الصحافيين في هونغ كونغ بأن بكين لم تتدخل في عمله بقدر لندن! لكن سرعان ما تلاشى التحفظ السياسي الصيني؛ وفي عام 2014، أطلق الرئيس التنفيذي في «المنطقة الإدارية الخاصة» مسار الإصلاح الانتخابي لكنه لم يحصد دعماً كافياً خلال اقتراع عام شفاف بموجب القانون الأساسي المعمول به، وتحديداً الدستور القائم في تلك المنطقة، كان ذلك الاقتراح يمكنه أن يضمن استمرار سيطرة بكين على عملية التعيينات.انتهكت تلك المقاربة روحية القانون الأساسي، أو حتى مضمونه، واندلعت «ثورة المظلات» الشبابية وأدت إلى شلّ مناطق متعددة طوال 77 يوماً، وقد جذبت هذه الحملة حوالي مئة ألف محتج وأربكت الحكومة حين طلبت المستحيل، أي إرساء ديمقراطية حقيقية، وهو مطلب لا يمكن أن تُحققه بكين. لكن من دون قيادة موحّدة، عجز المتظاهرون عن تقديم التنازلات اللازمة، وفي النهاية، انهارت الاحتجاجات وتفرّق الناشطون، وتجنبت الصين من جهتها أي تدخل مباشر في هذا الجدل.لكن تحركت السلطات الصينية خلسةً، فخطفت ناشري كتبٍ تنتقد جمهورية الصين الشعبية، وفي عام 2016، استعمل الناشطون المُنتخَبون في المجلس التشريعي منصبهم للتقليل من احترام الصين. كان هذا الحدث، أكثر من أي عامل آخر، كفيلاً بإيقاظ «الباندا العظيم» الذي لم يكن ودوداً بقدر ما يوحي به. في تلك المرحلة، تدخّلت بكين مباشرةً، فأمرت بإقصاء الفائزين بالانتخابات وبتنحية المرشحين. وفي السنة الماضية، بدأت الحكومة في «المنطقة الإدارية الخاصة» تضطهد قادة «حركة المظلات»، وفي شهر فبراير، اقترحت كاري لام، الرئيسة التنفيذية في المنطقة، تشريعاً لتسليم المجرمين وكان يمكن أن تستغله جمهورية الصين الشعبية لخطف منتقديها بطريقة قانونية، أجّج هذا القرار التظاهرات التي بلغت ذروتها بمشاركة مليونَي شخص فيها. مجدداً، بقيت الاحتجاجات لامركزية والمطالب غير واقعية، وعادت لام وعلّقت ذلك التشريع وكان يمكن أن تضع هذه الخطوة حداً للجدل القائم.اللجوء إلى العنف
لكن المتظاهرين طالبوا بسحب القانون رسمياً، ثم استقالة لام، ثم إطلاق سراح المحتجين المعتقلين، وأخيراً إرساء ديمقراطية شاملة، وبسبب اعتراض ناشطين قدامى من دعاة الديمقراطية، لجأ المحتجون إلى العنف فهاجموا المجلس التشريعي، واشتبكوا مع الشرطة، واحتلوا المطار، وتعاركوا مع متسللين مشبوهين سرعان ما تبيّن أنهم مواطنون صينيون.عززت الشرطة من جهتها نزعتها إلى استعمال القوة، ولجأت الصين إلى العصابات المحلية لضرب المحتجين، وصعّدت بكين خطابها معتبرةً المتظاهرين «إرهابيين»، ونسبت أفعالهم إلى «قوى خارجية عدائية»، وهددت بالتدخل ما لم يُفرَض النظام من جديد. استغلت الصين أيضاً ورقة القومية لاستمالة جمهورها المحلي أثناء تغطيتها للجدل القائم، ورفضت عرض لام بالاستقالة. كذلك، ذكرت تقارير غير مؤكدة أن القوات الصينية تحركت نحو حدود المنطقة الخاصة، أو تجمّعت القوات شبه العسكرية (الشرطة المسلحة الشعبية) لاستعمالها في هونغ كونغ.يعتبر جزء من المحتجين وحلفائهم أن جمهورية الصين الشعبية لن تتحمّل كلفة وقوع مواجهة حاسمة، على غرار أحداث ساحة «تيانانمن»، ويظن المحللون أن سمعة بكين ستتضرر كثيراً في هذه الحالة، لكن الصين، أو الحزب الشيوعي الصيني على الأقل، يحارب من أجل الصمود، لذا لا يمكنها أن تظهر في موقف ضعف أمام الاحتجاجات الشعبية أو تمنح حريات ديمقراطية لجزءٍ صغير من البلد دون سواه، ولن تقبل الصين طبعاً انتشار الفوضى في واحدة من أهم مدنها التي تُعتبر منذ فترة طويلة مدخلاً أساسياً للتجارة الغربية.إذا استمرت الفوضى، فسيكون فرض النظام بأي ثمن الخيار الواقعي الوحيد أمام جمهورية الصين الشعبية، لكن إذا كانت حملة القمع التي شهدتها ساحة «تيانانمن» في يونيو 1989 نموذجاً مصغراً عن الأحداث المرتقبة، فقد تؤدي هذه الجهود إلى إراقة الدماء على نطاق واسع.من المتوقع أن تترافق أي حملة قمعية من هذا النوع مع عواقب وخيمة لجميع الأطراف المعنية، ستخسر «المنطقة الإدارية الخاصة» استقلالها النسبي وسرعان ما تصبح تحت الحكم الصيني المباشر، كما أنها ستخضع على الأرجح لسيطرة الجيش موقتاً، كذلك، ستتدفق الأعمال والاستثمارات إلى خارج المنطقة، ولن تعود إليها قبل سنوات (إذا عادت أصلاً!)، وسيسعى الأثرياء أيضاً إلى نقل ثرواتهم إلى الخارج وسيبحثون عن ملاذ خارجي.قد يكون الأثر التجاري على قطاعات أخرى في الصين متواضعاً، لكن ستستعدّ بعض الشركات الخارجية على الأرجح لرد اقتصادي وسياسي من الغرب، وبما أن العلاقات الخارجية ستنهار بشكلٍ شبه مؤكد، يمكن أن تصبح الشركات المتبقية في جمهورية الصين جزءاً من الأضرار الجانبية.عقوبات حتمية
في ما يخص الولايات المتحدة، من المتوقع أن تلغي مكانة هونغ كونغ التجارية الخاصة، وستكون العقوبات الاقتصادية حتمية. يبقى الحظر التجاري مستبعداً، لكن على عكس ما حصل في عام 1989، سيبدأ الجدل حول السياسة الأميركية تزامناً مع بلوغ العلاقات الصينية الأميركية بعد عهد ماو أدنى مستوياتها. سبق أن أصبحت العلاقات الاقتصادية تحت الحصار، وتتوسع المخاوف حول حقوق الإنسان مع مرور الوقت، وتُشدد البنتاغون على المشاكل الأمنية في منطقة المحيطَين الهادئ والهندي، كذلك، ستؤدي حملة القمع الدموية إلى انهيار ما تبقى من روابط ثنائية وتقوية حجج مؤيدي استعمال القوة المقتنعين بأن حرباً باردة جديدة أصبحت وشيكة، أو ربما بدأت أصلاً.تواجه أوروبا بدورها ضغوطاً كبرى كي تتحرك، حين اجتمع أعضاء حلف الناتو في شهر أبريل، كانت جمهورية الصين الشعبية على رأس المواضيع التي ناقشها المجتمعون، أما البلدان الآسيوية، فلن تتحرك إلا على مضض، لكنّ الجهات التي تعتمد على الولايات المتحدة للدفاع عنها لن تتمكن من متابعة تعاملها مع الصين بوتيرة طبيعية. حتى أن الدول المجاورة لبكين قد تصبح أكثر حذراً وعدائية تجاهها وتبدي استعداداً إضافياً لتقوية جيوشها الخاصة، وبغض النظر عن الاستقرار المزعوم الذي سيكسبه الحزب الشيوعي الصيني عن طريق القمع، يبقى ثمنه باهظاً.يجب أن تدرك بكين الثمن الذي ستدفعه مقابل أي رد عسكري في هونغ كونغ وتتراجع مادامت الفرصة سانحة، في المقابل، يُفترض أن يُسهّل سكان هونغ كونغ هذا القرار على الصين، ما يعني ضرورة أن يتصرف المتظاهرون بِحُسن نية بدل أن يُحرّكهم الغضب. يجب أن تهدف كل خطوة إلى زيادة فرص صمود الحريات في هونغ كونغ، وبما أن نظام شي جين بينغ يميل بطبيعته إلى القمع، من الأفضل ألا يقدّم الناشطون أي أعذار لبكين.باختصار، تقف هونغ كونغ على شفير الهاوية، وسيكون القمع الصيني كارثياً! لذا يتعين على بكين والناشطين الديمقراطيين في هونغ كونغ أن يتحلوا بأعلى درجات ضبط النفس، وإلا فلا مفر من أن تُمهّد الفوضى لتوسع حملات القمع.
لا يمكن للصين أن تظهر في موقف ضعف أمام الاحتجاجات الشعبية في هونغ كونغ أو تمنح حريات ديمقراطية لجزءٍ صغير من البلد دون سواه، ولن تقبل بكين انتشار الفوضى في واحدة من أهم مدنها التي تُعتبر منذ فترة طويل
لطالما عاش سكان هونغ كونغ تحت حكم استبدادي سلمي بدلاً من النظام الديمقراطي البرلماني لكنهم كانوا يتمتعون بالحريات المدنية البريطانية وحققوا الازدهار بفضل أهم اقتصاد حر في العالم
لطالما عاش سكان هونغ كونغ تحت حكم استبدادي سلمي بدلاً من النظام الديمقراطي البرلماني لكنهم كانوا يتمتعون بالحريات المدنية البريطانية وحققوا الازدهار بفضل أهم اقتصاد حر في العالم