هل تموت الديمقراطية أخيراً؟!
إن التقارير حول زوال الديمقراطية والحرية وانتصار الشعبوية والسلطوية سابقة لأوانها، بل إن الشوق إلى الحرية والديمقراطية آخذ في الازدياد، ويشير هذا إلى أن العقل لم يُسحَق بَعد تحت وطأة المشاعر السلبية.
في أواخر سبعينيات وأوائل ثمانينيات القرن العشرين، زعم خبراء بارزون في العلاقات الدولية، مثل الفيلسوف الفرنسي الراحل بيير هاسنر، أن العالَم يشهد عملية اضمحلال تنافسي بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي، ففي ذلك الوقت، كانت تكاليف الصراع الذي يخوضه الاتحاد السوفياتي في أفغانستان على وشك أن تصبح أعظم من تلك التي تكبدتها أميركا بسبب حربها في فيتنام، وبحلول عام 1989، بات الـحُكم واضحا: فقد تمكن الضمور من الاتحاد السوفياتي بسرعة أكبر كثيرا من حاله مع الولايات المتحدة، وانهارت إمبراطوريته ضحية أخطائه وتناقضاته.اليوم، يبدو مفهوم الاضمحلال التنافسي للنماذج الإيديولوجية والسياسية وثيق الصِلة بما يجري من حولنا مرة أخرى. في مقابلة أجراها مؤخرا مع صحيفة فاينانشال تايمز، أعلن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أن مثال الديمقراطية الليبرالية أصبح «عتيقا مستهلكا»، ومع ذلك فإن حشود المحتجين المتظاهرين في شوارع موسكو، وبشكل أكثر إثارة في هونغ كونغ، تشير إلى أن النموذج الاستبدادي يعاني وفرة من المشاكل.صحيح أن الديمقراطيين المهمومين يخشون الآن أن يكون العالم دخل مرحلة ثالثة أكثر قتامة من تاريخ ما بعد الحرب. كانت المرحلة الأولى، من عام 1945 إلى عام 1989، خاضعة لهيمنة الحرب الباردة، وكانت المرحلة الثانية، بين عام 1990 وعام 2016، تمثل انتصارا هشا للأنظمة الديمقراطية الليبرالية، ولكن الآن يعيش العالم، وفقا لهذه الحجة، عصرا شعبويا جديدا بالغ الخطورة، والذي بدأ بفوز أنصار الخروج من الاتحاد الأوروبي في المملكة المتحدة وانتخاب الرئيس دونالد ترامب في الولايات المتحدة.
بيد أن هذا التفسير ربما يعكس المزاج العام الحالي الذي يتسم بالتشاؤم والاستكانة بقدر ما يعكس الواقع الموضوعي. فالشعبوية ذاتها تتعرض حاليا للهجوم في العديد من دول أوروبا الوسطى، بما في ذلك جمهورية التشيك، وسلوفاكيا، ورومانيا. وفي فرنسا يدافع الرئيس إيمانويل ماكرون عن النموذج الديمقراطي الليبرالي الكلاسيكي بقوة أكبر كثيرا مما توقع كثيرون من منتقديه.وعلى هذا فإن التقارير حول زوال الديمقراطية والحرية وانتصار الشعبوية والسلطوية سابقة لأوانها، بل إن الشوق إلى الحرية والديمقراطية آخذ في الازدياد، ويشير هذا إلى أن العقل لم يُسحَق بَعد تحت وطأة المشاعر السلبية.ويبقى السؤال القديم مطروحا: أي النموذجين- الديمقراطية أو الاستبداد- أصبح أكثر عُرضة للخطر؟ من الواضح أن النتيجة ليست محددة سلفا، وستتوقف بطبيعة الحال على شخصيات سياسية، وأحداث، وثقافات مختلفة.في هذا الصدد، ربما تكون الانتخابات الرئاسية الأميركية في عام 2020 حاسمة. علاوة على ذلك، أصبحت حالة عدم اليقين بشأن النتيجة أعظم مما كانت عليه قبل الانتخابين الأخيرين. صحيح أن قِلة من الناس تصوروا أن باراك أوباما قد يخسر في عام 2012، وكان قليلون هم من ظنوا أن ترامب قد يفوز في عام 2016، ولكن على النقيض من ذلك، يبدو سباق 2020 مفتوحا لكل الاحتمالات.بعد أن تبين لهم أنهم كانوا على خطأ بين في عام 2016، يحاول أغلب المعلقين، وأنا منهم، توخي المزيد من الحذر هذه المرة. ومع ذلك يبدو أن شرائح كبيرة من النخبة المالية والاقتصادية العالمية تتصور أنه ما لم تنزلق الولايات المتحدة إلى الركود في الأشهر المقبلة، فسيُعاد انتخاب ترامب. فضلا عن ذلك لا يعتمد تشخيص هذه النخبة على الخوف من الوقوع في الخطأ مرة أخرى فحسب؛ بل يبدو أن العديد منهم مستسلمون لهذه النتيجة، وربما حتى يتمناها بعض أفرادها. عند هذه النقطة، تتبادر إلى الذهن حتما المقارنة مع الحال في ثلاثينيات القرن العشرين. بطبيعة الحال، لا يجمع بين ترامب وأدولف هتلر الكثير من القواسم المشتركة، ولكن في قبولهم الواضح لإعادة انتخاب ترامب، يتصرف قسم كبير من المنتمين إلى المؤسسة الليبرالية عل نحو أشبه بسلوك النخب المالية والصناعية في ألمانيا عندما صعد هتلر إلى السلطة في ثلاثينيات القرن العشرين. في ذلك الحين ضلل المصرفيون وقادة الأعمال الألمان أنفسهم عندما تصوروا أنهم قادرون على السيطرة على مستشار بلدهم المبتذل الجديد. كانوا مقتنعين بأن هتلر، على الرغم من سلوكه ومظهره الغريبين، يظل يشكل الدفاع الأفضل ضد الشيوعية.من المحزن أن العديد من نخب اليوم لم يتعلموا أي شيء من التاريخ، وهم يفكرون ويتصرفون وكأن هناك انفصالا تاما بين المصالح والقيم في العالم الحقيقي، فما دام ترامب مفيدا للأعمال التجارية، فإنهم لا يبدون أي اهتمام بأنه يمثل التهديد الأكبر لروح أميركا وقيمها، وصورتها ومصالحها في الخارج. فيقولون: «من المؤكد أن ترامب ربما يبالغ قليلا في تعامله مع الصينيين بشأن التجارة، لكنه كان على الأقل يطرح عليهم الأسئلة الصحيحة. وصحيح أنه ربما يبالغ في استخدام بطاقة العِرق، لكنه ليس عنصريا، وإذا كانت مغازلة غير المقبول تساعد في توطيد دعم المخلصين له، فلِم لا؟»الواقع أن هذه الطريقة في التفكير بالغة الخطورة. كما قال الكاتب الفرنسي اللبناني أمين معلوف: «من الأفضل أن نقع في الخطأ بالأمل، على أن نصادف الصواب باليأس». وعلى النقيض من تصورات العديد من المتشائمين الديمقراطيين، فإن الأسوأ ليس حتميا، فلم ينتصر المستبدون والشعبويون بعد، وفي العديد من الأماكن، يقاوم الديمقراطيون بضراوة.أو بعبارة أقل تفاؤلا، لا تزال احتمالات الاضمحلال متماثلة بين الديمقراطية والاستبداد. وفي الوقت الحالي، لا يزال من غير المؤكد لأي نموذج قد تكون الغَلَبة، ولكن ليس من الحكمة أبدا استبعاد فوز الديمقراطية بهذه السهولة، ناهيك عن التعجيل في سقوطها.* دومينيك مويزي* مستشار خاص لمعهد مونتين في باريس.«بروجيكت سنديكيت، 2019» بالاتفاق مع «الجريدة»