بعضها قد يختفي عند حافة الذاكرة ربما بإرادة صاحبه أو باللاوعي لديه أو لديها، من قال إن الأيام تنسيك جراحك؟ ربما بعضهم لا يتوقف عندها يقذها بعيداً كما تبعد حبة المطر عن معطفك، وآخرون لا يمر يوم دون أن يتذكروها رغم محاولاتهم المستمية لنسيانها أو رميها في الجزء المظلم من الدماغ، تكثر الجراح في زمن النفاق، تغوص في أعماق باطن الجسد وأحشائه، تتوغل تدريجيا لتنقض على أحشائه أو أجزاء الجسد الأكثر ضعفا، أليست الأسماك الكبيرة تأكل الصغيرة؟ أو أليس البقاء للأقوى؟ حتى في أعضاء الجسد هي الأخرى كذلك تعيش معنا كل سقوطنا وانحطاطنا وربما نرجسيتنا في الكثير من الأحيان وبعض حسرتنا وحزننا على ما كان وأصبح. والجراح ليست كلها مرتبطة بعلاقة كانت أو حب لم يكتمل، أو انقضت عليه أفكار المجتمع وثقافة إما جاهلية وإما استهلاكية بحتة عندما تحولت حتى العلاقات والصداقات العميقة إلى شيء من العرض والطلب و»شيلني وأشيلك». لا، لا ليست الحياة اليوم كلها قاتمة بهذا التصور، طبعا ليست كلها هكذا ولكن أكثرها حتما لا يبعد كثيرا عن تلك الصور المتكررة لأشكال متنوعة من النفاق العام.
بعضهم ينافق بعضهم لمصلحة ما أو حتى للبقاء في وظيفة أو علاقة عائلية أو حتى حب، ذاك الذي تزوجها ليرتقي في وظيفته عبر أكتاف والدها، وما إن حصل على مراده ما كان منه إلا أن رمى الزوجة والأولاد، وهي أيضا تلك التي تبحث عن حياة تشبه ما تبثه المحطات التلفزيونية المتخصصة في الطبقة الأرستقراطية أو «محدثي النعمة» وهم كثر. كلهم، بل كلنا نتشبه بهم حتى اصطف البعض ساعات ليقتنوا حذاء الكرداشين بسعر يضاهي ثلاثة أضعاف سعره الحقيقي لأنه مصنع في تلك الورشات المظلمة لعمالة تنهكها العتمة، ويأكل جسدها الفقر، ولا خيار أمامها سوى المضي كل يوم في ساعات الصباح الأولى لتلك الورشة، وتمر الساعات الطويلة وهن أو هم يقومون بتصنيع كل البضائع التي تتحول إلى ماركات عالمية، فيتحولون هم فجأة إلى متفرجين على تلك التي بعرقهم أصبحت موضة حديثة. هو الآخر نفاق اجتماعي عندما يتحول بعضهم لفعل الخير والتبرع للاجئين وخصوصا السوريين وهم أو هن يصرفون في اليوم على ملابس وشنط ومواد استهلاكية ما يمكن أن يطعم كثيرا من الأسر لمدة شهر سواء في سورية المنكوبة أو في كل البقاع العربية التي تئن من الجوع، حتى خرج أبناؤها ليحرقوا جنسياتهم وأوراقهم الثبوتية تعبيرا عن أنه لا يشرفهم أن ينتموا إلى وطن لا يحترم البسطاء من ناسه. لا نستطيع أن نحدث عن المواطنة، فهي بعيدة عنا، وتبدو كلما أكثروا منها في طبخات الصحافة والإعلام اليومي، ما لها إلا أن تفسد اللحظات المتبقية من اليوم لنا، لأن كل أيامنا لهم، نعمل من أجلهم، نبني لهم، نصنع لهم، نمارس النفاق اليومي لنبقى بالقرب منهم فلا تنقطع لقمة العيش المغمسة بالأوجاع والذل. لا كرامة لنبي في وطنه كما قالوا، واليوم لا كرامة لمواطن عربي على أرض لم يعد يعرفها رغم أنها كانت عشقه أيام ما كان الوطن ليس حقيبة!! أما الآن فليت درويش يعود ليعرف أن الأوطان لم تعد سوى حقائب سفر من إنتاج الصين واستهلاك كل العالم. يحمل الكثيرون وخصوصا من الشباب حقائبهم وبعض الصور والذكريات التي تعبق بها رئتهم حتى رائحة زهرة البرتقال في الموسم والزعتر عند باب المنزل وربطة النعناع التي نعطر بها كوب الشاي المتبقي لنا، فلا شراب الورد ولا التوت ولا المشروبات الحديثة التي تساهم في تنظيف الجسد من المخلفات يعرفها الكثيرون أو سمعوا بها، بل إن بعضهم يتصور أن الكباتشينو هو قمر آخر لم يمر بسمائهم، بل بقي عند الطليان الذين العتب كله عليهم كما يقول الشوام! أصبح من المفيد أن يضيف وزراء التربية والتعليم إذا وجدوا وقتاً بين الجري لمحاباة الوزير والرئيس والأمير، عليهم أن يضيفوا مادة أساسية لمستقبل أجيالنا القادمة، فدونها لا يمكن لهم أن يضعوا الخبز على موائدهم، ألا وهي النفاق الذي دفع بالكثيرين إلى ركوب الموج بحثا عن شيء من الكرامة. * ينشر بالتزامن مع «الشروق» المصرية
مقالات
ربما وطن... ربما حقيبة سفر
26-08-2019