مقال اليوم متشعّب بمواضيع مختلفة، لكنها تجتمع حول جوهر واحد، وهو الفساد المكشوف الوجه والمعلن بتبجّح، فلم يعد هناك أي خوف من المحاسبة، لأن المحاسبين ذاتهم مشاركون فيه ويغطّون له سقف الحماية والشرعية وغضّ النظر، ولم يعد هناك خوف من محاسبة قانون أو معاقبة ضمير، لأنه مات منذ زمان بعيد.الفساد بات صفة عالمية يتشارك فيها الجميع، لا تخص فقط الدول الفقيرة التي قد يدفعها فقرها إلى تحليل الفساد واستباحته، لكن الغنية باتت هي العنوان المصدر للفساد المخطط وفق مناهج جهنمية تعرف كيف تمنحه صفة الجواز والشرعية.
أبدأ بفيديو انتشر في الأسبوع الماضي ووزّع بواسطة "واتساب" يُظهر شبابا خليجيين يقومون بتغيير زيت سيارتهم وصبّ الزيت المتخلف منها في بالوعة للمجاري موجودة بالطريق في مدينة زلامسي النمساوية، بدلا من تغيير الزيت في محطات تبديل زيوت السيارات، وكانت نتيجة هذا الفعل أن قبض البوليس النمساوي عليهم وغرّمهم 5000 يورو، بسبب تسرب الزيت من البالوعة إلى المجاري التي صبت في بحيرة زالامسي الشهيرة ولوثت المياه، وكانت الكاميرات المحافظة على نظافة البيئة قد صورتهم منذ خطوتهم الأولى بتغيير الزيت، ولو ماتت سمكة فيها لكانت الغرامة سجنهم.من جهة أخرى، هناك فيديو على "يوتيوب" يطرح مشكلة أعظم، وهي تحوّل دولة ألبانيا إلى مكبّ لمخلفات الدول الأوروبية المجاورة لها، ومنها النمسا التي تحافظ على نظافة هوائها ومائها وكل ما فيها على حساب تلويث دولة أخرى، بسبب الفساد الذي هو من الطرفين، الذي يرسل مخلفاته مع الرشاوى للتخلص منها بعيداً عن بلده، والطرف الآخر الذي يقبل بدخولها وتدمير البيئة وكل من يعيش فيها.وتركيا التي يُضرب المثل بنظافة مدنها وبيئتها أيضا لا مانع لديها من التخلص من مخلفاتها بإرسالها إلى ألبانيا، وتبادل منافع الفساد بين الأطراف المتبادلة.أيضا شاهدت فيديو لبرنامج "صاحبة السعادة" تقدمه الفنانة إسعاد يونس، واستضافت فيه مجموعة من ملّاك مطاعم المأكولات البحرية الشهيرة في مصر، وكان كلّ منهم يشرح ويبين أسباب شهرة مأكولاته، وذكر واحد منهم أسباب جودة الأسماك والروبيان عنده بحسب تعبيره أنها "رابية" بثاني أجود مرعى في العالم، ويقصد به الغردقة، التي سُمح للبواخر بأن ترمي في البحر فضلات مخلفاتها، وبسبب هذه المخلفات رعت أحجام الربيان الذي يتغذى على هذه المخلفات القذرة وكبرت، وأكيد المخلفات لم يتم التخلص منها ببلاش، لابد أن وراءها ثمنا مدفوعا.الغريب أن هذا الموضوع لم يلفت نظر المقدمة التي أكلت منها وأثنت عليها بتلذذ.أما تلوث البيئة في الكويت فلا يحتاج إلى من يدفع له، لأنه فساد بـ "بلاش"، لا يوجد قانون يردعه ولا كاميرات تصيده وتخالفه، فكل المصانع والمعامل والمحلات ترمي زيوتها ومخلفاتها في البحر دون حسيب ولا رقيب، حتى أصبحت أسماك الميد الصغيرة بموسمها بحجم الأسماك الأكبر منها، وذلك لجودة المرعى الذي تتغذى عليه، وعندما يزداد تلوث مياه البحر أكثر من احتمال السمك لمرعاه، تطفو جثثه على الشواطئ البحرية، وأيضا لا بأس بطفو جثثها التي لن يُحاسب عليها أحد.قرأت مقالاً نسيت اسم كاتبه يعدد فيه مستشفيات معالجة السرطان في مصر تفوق عدد مستشفيات السرطان في لندن، وأنه من الأفضل القضاء على مسببات المرض، بدلا من إنشاء مستشفيات له، وذلك بإعادة تأهيل البيئة وتنظيفها من الملوثات التي طالت مياه الشرب وتلوث الهواء. وبصراحة لابد أن هناك منافع تأتي من وراء هذا التلوث لا أعرف ما هي ومن وراءها ومن هم المستفيدون منها، لكن من الممكن أن أقارنها بالوضع الموجود عندنا، بعدد مستشفيات السرطان في دولة صغيرة مثل الكويت التي تزداد باستمرار، وأنه من الممكن القضاء على مسببات المرض بدلا من ازدياده وتوسيع رقعته، بالمسارعة بإنشاء المترو الذي سيخفف من ملوثات عوادم الباصات والسيارات وينقي الهواء، لكن هل يسمح التجار المستفيدون من بيع السيارات وقطع غيارها وزيوتها ومناقصات إعداد شبكات الطرق والجسور الضخمة لها؟غير مهم أن يمرض الناس وأن تزداد حالات السرطان في البلد، فكلها خير يصب بجيوب التجار الذين سيربحون من مناقصات بناء المستشفيات، ومن توريد أدوية السرطان الغالية الثمن، والدولة ستدفع بدلا من مكافحة ومحاصرة أسباب المرض، وفي النهاية الفساد ينتصر.
توابل
عصر سيادة الفساد المتبجح
26-08-2019