إفلات المجرم من العقاب قد يكون أخطر من الجريمة ذاتها؛ فالمجرم الذي لا يعاقب قد يستمر في إجرامه، ظناً منه أنه فوق القانون، يستطيع فعل ما يشاء دون رادع، حتى تصبح الجريمة واقع حال ونمط حياة.بالمقابل، فإن العقاب يجب أن يخضع لقواعد عدالة صارمة، تمنع أي سلطة مستهترة تتجاوز القانون، وتتجاوز شروط العدالة المستحقة والقضاء المستقل، بحجة حماية الأمن والاستقرار.
الأمن والعدالة وجهان لعملة واحدة، فلا يتحقق الأمن بلا عدالة، حتى وإن بدا ذلك ظاهرياً، بينما يتحقق الأمن كلما كانت العدالة راسخة متأصلة في المجتمع. كذلك هو الأمن والحرية، فلا تناقض بينهما، بل تكامل مؤكد. فالدفاع عن مسارات العدالة وحق المتهم بمحاكمة عادلة، هو دفاع عن المجتمع لا عن المجرم.وإذ إنه ليس كل مجرم يتعرض للعقاب والإدانة، فالمجرم أمام المجتمع هو الذي تم تسجيل جريمته في سجله الجنائي. أما ذلك المجرم الذي لم يتم القبض عليه، مهما كانت فداحة جرائمه، فقد يكون من شخصيات المجتمع العامة في مجالاته المتعددة، من العمل السياسي إلى التجاري إلى العمل العام، وقد يكون متصدراً الحياة العامة، تملأ صوره الفضاء العام. فكم لدينا من مجرمين طلقاء، لهم وزنهم في المجتمع، فقط لأنه لم تتم إدانتهم، وبالذات في تلك الجرائم المشبعة بالفساد أو استغلال النفوذ! وتعد الجرائم الإنسانية وجرائم الحرب من أخطر الجرائم التي يرتكبها البشر، لاعتدائهم على البشر بشكل مباشر. ولذلك فهي لا تسقط بالتقادم، أي أنها تبقى أبد الدهر، قابلة للتحريك في أي وقت، فما إن يسقط نظام دكتاتوري حتى تكون قضية محاسبة مرتكبي الجرائم ضد الإنسانية من أهم القضايا المبحوثة في العدالة الانتقالية.وهكذا صار موضوع الإفلات من العقاب نقطة أساسية في بناء المجتمعات، وبالذات التي مرت بحروب أهلية أو احتلالات أو جرائم إنسانية، ولهذا السبب شُكلت محاكم جنائية دولية خاصة في البوسنة، وحكمت بالسجن ٤٠ عاماً على رئيس صرب البوسنة رادوفان كاراديتش بتهمة قتله مسلمين بوسنيين في مذبحة سربرنيتشا سنة ١٩٩٥، ومحكمتان أخريان إحداهما لسيراليون، والأخرى لرواندا، إلى أن تم توقيع اتفاقية روما سنة ١٩٩٨ بإنشاء المحكمة الجنائية الدولية، والتي رفضتها الولايات المتحدة وإسرائيل وأغلب الدول العربية، وغيرها من الضالعين في جرائم إنسانية، فاجتمعوا بتناقضاتهم على أمر واحد، هو الإفلات من العقاب.
أخر كلام
الإفلات من العقاب
28-08-2019