قضية الشباب والسكن في إسبانيا مسألة تاريخية لكنها أصبحت في السنوات الأخيرة دراما تثقل كاهل العائلات وترمي بأوزانها على المتقاعدين الذين لم يتوقعوا يوما اللجوء إلى وسائل بديلة لتأمين السكن.وانتهت الأزمة المالية في إسبانيا لكن آثارها السلبية مازالت تخيم على كافة مستويات الحياة وتقوض بشكل خاص أحلام الشباب الراغبين في الاستقلال عن عائلاتهم ومساعي كبار السن الراغبين في حماية استقلاليتهم والاستمتاع بحياة كاملة ومندمجة في المجتمع.
وبعد انفجار الفقاعة العقارية بدأت في الآونة الأخيرة مرحلة تضخم أسعار الإيجارات السكنية بشكل خرج عن السيطرة ولاسيما في المدن الاسبانية الكبرى مثل مدريد وبرشلونة نتيجة عدة أمور بينها تشديد شروط القروض العقارية وفتح الباب لتأجير الأفراد منازلهم للسياح في مختلف المناطق الاسبانية.يضاف إلى ذلك إصلاح سوق العمل الذي أسفر عن عقود عمل غير مستقرة وأجور منخفضة أثرت بشكل أساسي على فئة الشباب فضلا عن استغلال شركات أجنبية تراجع أسعار المنازل خلال الازمة المالية لشراء أعداد كبيرة خصصتها للايجار حصرا بأسعار مرتفعة وما كان لذلك من تأثير على السوق لتغير قوانين العرض والطلب.وقد تواكب انخفاض الأجور وارتفاع تكاليف المعيشة مع ارتفاع متزايد في أسعار الإيجارات لتشكيل العاصفة المثالية التي دفعت بالشباب وكبار السن وافراد من جميع الشرائح العمرية إلى اتباع استراتيجية السكن المشترك مع آخرين يعيشون الظروف نفسها ويعانون لإيجاد مسكن بأسعار معقولة.وأظهرت دراسة أجراها (مجلس الشباب) التابع لوازرة الصحة والخدمات الاجتماعية والمساواة الاسبانية ان 81 في المئة من الشباب الذين تتراوح أعمارهم بين 16 و29 سنة (ويبلغ عددهم 6ر6 مليون شخص) مازالوا يقطنون مع آبائهم وان 19 في المئة فقط من تلك الشريحة العمرية تمكنوا من الاستقلال في عام 2018 وهو أدنى مستوى منذ عام 2002 علما ان تلك النسبة بلغت في خضم العاصفة الاقتصادية قبل 10 سنوات نسبة 26 في المئة.وأوضحت الدراسة ان 6ر15 في المئة فقط ممن يغادرون منازل آبائهم يتمكنون من تحمل نفقات السكن بمفردهم أي ما لا يتجاوز 4ر196 ألف شاب وشابة في حين يقطن 8ر11 في المئة من الشباب بمنازل قدمتها لهم عائلاتهم بينما يلجأ البقية إلى خيار تقاسم نفقات السكن على الرغم من ان الثقافة الاسبانية ليست ثقافة استئجار بل ثقافة تملك وهو خياره يفضله 85 في المئة من الشباب فوق 30 سنة.وتفيد الدراسة بان الشباب الذين تتراوح أعمارهم بين 19 و29 سنة يضطرون لتخصيص 91 في المئة من رواتبهم الشهرية لاستئجار بيت بمفردهم في عامي 2018 و2019 علما ان تلك النسبة بلغت 4ر57 في المئة قبل 10 سنوات في الوقت الذي تبلغ النسبة المثالية 30 في المئة.ويقف متوسط عمر الاستقلال عن الوالدين في إسبانيا عند 5ر29 سنة في 2018 مقارنة ب 5ر18 سنة في السويد على سبيل المثال وعلى الرغم من بدء تراجع معدلات البطالة منذ عام 2016 فإن عقود العمل الجديدة غالبا ما تكون مؤقتة وغير مستقرة فضلا عن كونها غير كافية لمواجهة تكاليف الحياة.ولايزال 45 في المئة من الشباب الذين تقل أعمارهم عن 35 سنة يعيشون مع آبائهم وفق دراسة أجرتها شبكة وساطة عقارية بالتعاون مع شركة (سيغما دوس) لدراسات السوق والديموغرافية الاسبانية فيما يعتمد 55 في المئة من المستقلين بشكل جزئي اقتصاديا على آبائهم في ضوء تدني الأجور وعدم الاستقرار الوظيفي.وفي الوقت نفسه لا تتوقف أسعار ايجارات المنازل عن الارتفاع في جميع أنحاء إسبانيا وقد بلغت تلك الزيادة نحو 3ر9 في المئة في 2018 مقارنة بالعام الذي سبقه ولم تتوقف عن الارتفاع خلال الأشهر الأولى من العام الجاري مع استمرار ارتفاع الطلب.من جانب آخر يشكل ارتفاع أسعار الإيجارات السكنية عقبة في وجه كبار السن الراغبين في التمتع بشيخوخة نشيطة ومواصلة حياتهم الفاعلة وحماية استقلاليتهم علما ان في إسبانيا 9ر8 مليون شخص من كبار السن (يبلغ من العمر 65 سنة أو أكثر) أي ما يمثل 1ر19 في المئة من عدد السكان وفق بيانات المعهد الوطني للاحصاء في 2018.وتشير تلك البيانات إلى ان 7ر4 مليون شخص ممن تفوق أعمارهم 65 سنة يعيشون بمفردهم ويعجز الغالبية عن تحمل تكاليف الحياة ما يدفعهم إلى تأجير غرف في منازلهم لغرباء ليتمكنوا من مواجهة الحياة في ظروف أفضل.وذلك ان 70 في المئة من المتقاعدين يعتمدون على معاش التقاعد العام بصفته مصدر الدخل الوحيد لهم علما ان 38 في المئة منهم يتقاضون أقل من 750 يورو شهريا (7ر610 دولار) في حين يعاني 45 في المئة منهم من مشاكل للوصول إلى نهاية الشهر وفق دارسة أعدتها مؤسسة (إيداد أي بيدا) الخاصة التي تعنى بشؤون المسنين.من جهة أخرى يتقاضى أكثر بقليل من 259 ألف متقاعد معاشا يتراوح بين 300 و400 يورو (3ر 244 دولار من 7ر325 دولار) لأنهم لم يساهموا إطلاقا أو لم يساهموا بشكل كاف في نظام الضمان الاجتماعي وهم اليوم يفتقرون للموارد الكافية وذلك وفق التقرير الخاص بمتابعة وتطور إدارة معاشات الضمان الاجتماعي غير القائمة على الاشتراكات الذي أعده معهد المسنين والخدمات الاجتماعية التابع لإدارة الضمان الاجتماعي في إسبانيا.ربما يكون الشباب وكبار السن أكثر المحتاجين إلى السكن المشترك لكن تلك الطريقة أصبحت الحل البديل لكثير من الأفراد البالغين والعاملين والعائلات التي خسر أحد الأبوين فيها وظيفته أو اتفقا على الطلاق فإما ان يعودا مع أطفالهما إلى منازل أهلهما أو يلجآ إلى السكن المشترك في مشهد بات مألوفا في المجتمع الإسباني.
اقتصاد
أزمة الإيجارات في إسبانيا أثقلت كاهل العائلات والشباب
29-08-2019