من بين الكثير من التناقضات التي تحيط بالصين اليوم يعتبر مسار مبادرة الحزام والطريق الحملة التي تثير القدر الأكبر من الجوانب المحيرة والضبابية الهدف، وحتى بعد أن أصبحت هذه الخطة الواسعة النظير الجلي للسياسة الخارجية الصينية بصورة عامة فهي تظل تنطوي على صعوبة فيما يتعلق بالتحديد الدقيق لماهيتها وأهدافها. ويتم تعريف مبادرة الحزام والطريق في الوقت الراهن على شكل برنامج تطوير بنية تحتية نظراً لأن التغطية الاعلامية لها تميل الى التركيز على المشاريع الريادية مثل الموانئ ومصانع الطاقة اضافة الى تداعيات تلك البرامج عندما تتعرض للفشل، ولكن فيما يشيد قادة الحزب الشيوعي الصيني بهذه المبادرة بتعابير اقتصادية رفيعة لافتة فإنها غدت– بشكل عملي– شيئاً يغري الدول باطلاق اسمه على مبادرات ومشاريع في الخارج.
وقد تم تطبيق فلسفة مبادرة الحزام والطريق في الآونة الأخيرة على كل أنواع مشاريع التنمية والتطوير من جانب الهيئات غير الحكومية في الصين التي تسعى الى اقامة «علاقات عاطفية أقوى» من خلال مهمات منع الإصابة بمرض الإيدز وحتى برامج صرف العملات الأجنبية وتداولها في أوساط طلاب الجامعات الصينية في الدول الأعضاء في هذه المبادرة. وفي بعض الأوقات تبدو المشاريع الواقعة تحت مظلة مبادرة الحزام والطريق متناقضة بعضها مع بعض، فيما تدعو شركات، مثل ائتلاف بي آر آي غرين ديفيلوبمنت انترناشنال، الى تنمية الطاقة المستدامة اعتباراً من هذه السنة حيث شرعت البنوك الصينية المشاركة في مبادرة الحزام والطريق بتمويل ما يصل الى 140 مصنعاً للفحم في شتى أنحاء العالم.وأحدثت هذه المبادرة درجة واسعة من التشويش الى حد دفع حتى قادة الحزب الشيوعي الصيني وخاصة الرئيس شي جين بنغ الى طرح تعريف أفضل لغاياتها وأهدافها في وقت سابق من فصل الصيف الحالي. والى جانب هذا الجهد لاحظ محللون محاولة ذات صلة من قبل حكومة بكين من أجل التحكم في الاقراض المتهور لمشاريع مبهرجة ومتسرعة والعمل على اتخاذ أسلوب أكثر حذراً عند العمل مع حكومات الدول النامية. ويبدو أن هذه المبادرة المثيرة للجدل ترمي الى التشديد على تقليص ما اشتهرت به بكين من تحمل المجازفة بعد أن تخلف عدد من الدول عن سداد قروض مشاريع ضخمة، وعلى الرغم من ذلك، وفي حين بدأ قادة الصين بالابتعاد عن تمويل مشاريع البنية التحتية الضخمة والتركيز على أهداف مبادرة الحزام والطريق فقد تحولوا بصورة متزايدة نحو أقنية اخرى كانت الرئيسة فيها تهدف الى التأثير على وسائل الاعلام والدوائر الأكاديمية في الدول الخارجية. وجدير بالذكر أن هذا التوجه يأتي في وقت يشهد الاقتصاد الصيني فيه حالة من التباطؤ كما أن الفوائد المتوقعة والمتوخاة من خلق مبادرات حسن نية من خلال القوة الناعمة قد تكون أكثر قبولاً لدى قادة الصين من المجازفة في تمويل مشاريع في دول غير مستقرة من الناحيتين الاقتصادية أو السياسية.
توثيق أسلوب القوة الناعمة
استخدام الصين تكتيكات القوة الناعمة تم توثيقه بشكل جيد طوال سنوات كثيرة وذلك عبر منظمات تمولها الدولة مثل معهد كونفوشيوس الذي يعمل على تصدير صورة الحزب الشيوعي للتاريخ الصيني في المجتمعات السياسية والأكاديمية في الخارج.وبالمثل، اتخذت وسائل الاعلام خطوة مشابهة مثيرة للقلق والاستهجان وأقدمت على دفع مبالغ مالية من أجل نشر محتويات باللغة الانكليزية في صحف رئيسة بما فيها الواشنطن بوست لفترة من الزمن.وعلى أي حال، ومع انتشار مبادرة الحزام والطريق تضخمت وازدادت حملة النفوذ هذه وتحولت الى شبكة من التنظيمات والجمعيات المدعومة من الدولة واتخذت كلها خطوات أكثر اندفاعاً من أجل السيطرة على المحادثات المتعلقة بالصين على صعيد دولي.كما تظهر دراسة حديثة قام بها العالم الأكاديمي الصيني ناديج رولاند وهو مسؤول فرنسي سابق يعمل في الوقت الراهن لدى المكتب الوطني للبحوث الآسيوية تظهر مدى توسع هذه الشبكة. وعلى سبيل المثال فقد خلقت الدولة خلال السنوات الأربع الماضية كيانات على غرار الاتحاد التعاوني لمبادرة الحزام والطريق وتحالف أنباء الحزام والطريق من أجل التشارك مع شركات الاعلام الأجنبية في الدول الأعضاء. ومن الوجهة الحقيقية كان ذلك يعادل في أغلب الأحيان تقديم تمويل لبعثات الى الصحافيين الأجانب لزيارة الصين وتنظيم منتديات يقدم فيها الصحافيون الأجانب دعايات صينية.حملة إعلامية في إفريقيا
من جهة اخرى بدأت بكين بتمويل مشاريعها الاعلامية الخاصة في الخارج، وطرح الروايات الرسمية الصينية وقد برز ذلك الجهد بشكل جلي في القارة الإفريقية، حيث قامت الشركات الإعلامية الصينية الرسمية باقتحام أسواق التلفزيون وعملت في أغلب الأحيان بقوة وجهد من أجل التفوق على المنافسين المحليين واغراق المشاهدين بتغطيات اعلامية مؤيدة لبكين. وقد أبرزت روايات حديثة من صحيفة الواشنطن بوست الأميركية ومجلة دير شبيغل الألمانية قضايا امتنعت فيها تلك الشركات عن نشر تغطيات سلبية حول الصين أو استخدام منصاتها في محاولة لتحجيم أنباء ضد بكين من مصادر مستقلة.وتجدر الاشارة الى أن حملة النفوذ هذه في القارة الإفريقية قد أثارت قلقاً في أوساط الدوائر العليا الدفاعية في الولايات المتحدة، وبحسب وثائق نشرت من قبل وزارة الدفاع الأميركية في الآونة الأخيرة وتصريحات الرئيس السابق للقيادة الأميركية في إفريقيا فإن نفوذ الصين في تلك القارة قد اعتبر تهديداً كبيراً للمصالح الأمنية الأميركية وخاصة بعد أن أصبحت 39 دولة من أصل 54 دولة إفريقية مشاركة كدول أعضاء في مبادرة الحزام والطريق.عوامل قلق أخرى
في غضون ذلك أثارت الاجراءات الأخيرة الاخرى التي تحققت في ظل مبادرة الحزام والطريق درجة من القلق المماثل لأن «طريق الحرير الرقمي» أصبح حجر الزاوية في استراتيجية تلك المبادرة تمكنت شركات التقنية الصينية من خلالها من تصدير كل شيء من البنية التحتية لشبكات الانترنت وحتى تقنية تعريف الوجه والرصد والمراقبة الى دول في آسيا وإفريقيا ومنطقة الخليج العربي. وحتى مع محاربة الولايات المتحدة لجهود شركة هواوي الرامية الى نشر تقنية 5 جي في شتى أنحاء العالم فقد تمكنت الشركات الصينية من بناء مجالات وفرص في مناطق اخرى مثل وضع كابلات انترنت في قاع البحار اضافة الى بناء الأرضية اللازمة من أجل مراقبة نقاط وضع كابلات الانترنت في الموانئ الصينية، ويتمثل الخوف في كل هذه الحالات من قدرة بكين في نهاية المطاف على بسط نفوذها على هذه البنية التحتية من أجل الحد من حرية التعبير في المواقع التي تريدها.ويميل علماء الصين الى الموافقة على أن مبادرة الحزام والطريق كانت على الدوام جهداً أساسياً من جانب بكين وارثاً للرئيس شي جين بنغ والذي يعتبر الزعيم الصيني الأقوى منذ قرن من الزمن، كما أن رؤية التنمية في هذه المبادرة ومنذ أيامها الأولى كانت توصف بوضوح على أنها تهدف الى توحيد العالم بطريقة تكون الصين فيها نواة اقتصادية تستقطب الدول الاخرى البعيدة والقريبة منها.رهان بكين
وعلى الرغم من ذلك ومع اضطرار الصين الى مواجهة حدود وقيود طموحاتها، يبدو أنها تراهن على أن هذا المسار نحو التخمة والنفوذ العالمي ربما يكون أكثر تكلفة وخطراً من بعض الطرق الاخرى. ويبدو أنها تسعى إلى طرق أقل اندفاعاً في تلميع صورتها على المسرح الخارجي.من جهة اخرى يبدو أن توجه بكين نحو التقدم في الخارج يناقض استراتيجية استكشاف طرق جديدة لفرض السيطرة عندما تترهل فرص التنمية والحوافز الاقتصادية.