يزداد التركيز على التحالف المزعوم بين الصين وروسيا، ويبدو أن استنكار بكين للدور الغربي في احتجاجات موسكو يثبت مجدداً نشوء محور استبدادي بين البلدين، لكن رغبتهما المشتركة في لوم الغرب على مشاكلهما وإضعاف ما يعتبرانه هيمنة أميركية على العالم لا تخفي التوتر الحقيقي في هذه العلاقة الثنائية.يواجه كل طرف مشاكله الخاصة بسبب تنامي الفجوة بين توقعات معظم الفئات الليبرالية والداعمة للغرب محلياً وسكان موسكو وهونغ كونغ على التوالي.
من الأسهل عليهما طبعاً أن يتهما المشبوهين الاعتياديين في وكالات الاستخبارات الغربية والمنظمات غير الحكومية والصحافيين (لا يميلان أصلاً إلى التمييز بينهم) بالتدخل. حتى أن عدداً من صانعي السياسة في المعسكرَين يصدق تلك الادعاءات على الأرجح.لكن تبقى هذه التوجهات من أبسط النزعات السائدة. ليس مفاجئاً أن يدرك النظامان اللذان يحاولان الجمع بين اقتصاد ليبرالي وحكم استبدادي مخاطر الديمقراطية الاجتماعية التي تطغى عليها مواقع التواصل الاجتماعي. قال سامويل جونسون في الماضي إن «الوطنية آخر ملجأ للأنذال»، لكن يبدو أن التهم المرتبطة بقلة الوطنية استبدلت تلك المقولة اليوم.على نطاق أوسع، تحتاج روسيا إلى الصين أكثر مما تحتاج الصين إلى روسيا، لذا تبغض موسكو بكين وتخشاها في مجالسها الخاصة، وتبادلها بكين الازدراء في الخفاء. تعكس الأرقام التجارية وحدها اختلال التوازن هذا. فيما تعتبر الصين أهم شريكة تجارية لروسيا، تحتل روسيا المرتبة العاشرة على لائحة أهم شركاء الصين التجاريين.بنظر الصينيين، يعتبر الميل الروسي إلى كسر قواعد النظام الدولي بشكلٍ صريح ومُسبِب للمشاكل مفيداً لكنه غير لائق، وتؤدي موسكو إذاً دور كاسحة جليد، ما يعني أنها تشق طريقها بكل صخب، فتسحق ما يقف أمامها وتطلق أبواقها المزعجة. يستفيد الصينيون من هذه النزعة لأقصى حد (هل كان غزوهم لبحر الصين الجنوبي ليثير المزيد من الاهتمام والانتقادات لو لم يخرق الروس القانون الدولي بدرجة فاضحة في أوكرانيا؟)، لكن لا يعني ذلك أن الروس يحظون باحترامهم.عدا ذلك، لماذا تحتاج الصين إلى روسيا؟ قد لا تكون قيمتها السوقية كبيرة، لكنها مصدر للمواد الخام والطاقة، بدءاً من الخشب وصولاً إلى النفط. لا حاجة إلى أي صداقة لاختراق السوق، وتدرك بكين جيداً أن روسيا تتوق إلى زيادة مبيعاتها وإيجاد مصادر تمويل بديلة في هذه الأيام. كل ما تحتاج إليه لتحقيق أهدافها هو المال إذاً.لكن يدرك الروس هذا الواقع بدورهم. ما كانت أي أوهام أخرى لتصمد بعد المفاوضات القاسية على اتفاق الغاز في نوفمبر 2014، إذ استغلت بكين رغبة فلاديمير بوتين اليائسة في عقد اتفاق لإبرام صفقة بالغة الصعوبة.في غضون ذلك، ينتشر النفوذ الاقتصادي الصيني في الشرق الأقصى الروسي وفي دول ما بعد الاتحاد السوفياتي التي تعتبرها موسكو جزءاً من نطاق نفوذها. لكن المنافسة القائمة غير متماثلة، إذ تريد موسكو اكتساب سلطة لا تهتم بها بكين طالما تفوز بالصفقات التي تريدها، وهذا ما دفع المعنيين إلى إنكار الواقع.لكن يدرك الجميع واقع الأمور. أصبحت موسكو عالقة في منافسة جيوسياسية مع الغرب وتحتاج إلى أي موارد يمكنها إيجادها، وتُعتبر بكين جزءاً منها حتى الآن. لكن يبقى هذا التحالف بين البلدين مزيفاً، ما يعني أنه شكلي وغير جوهري.في شهر سبتمبر من السنة الماضية مثلاً، انتشرت أنباء كثيرة عن مشاركة أكثر من 3 آلاف جندي صيني في مناورات «فوستوك» الروسية العسكرية. لكن موسكو حصرت الصينيين بجزء جانبي من التدريبات، خوفاً من أن يعرفوا الكثير عن الإمكانات الروسية العسكرية.في الوقت نفسه، أرسل الصينيون سفينة من طراز «دونغ دياو» للتجسس على السفن الحربية الروسية المشارِكة في المرحلة البحرية من «فوستوك»، علماً أن بكين لم تتلقَ دعوة للمشاركة فيها.كانت إشادة الرئيس الصيني شي جين بينغ ببوتين، بحماسة غير معهودة، واعتباره «صديقه المقرب» حين تقابلا في موسكو في شهر يونيو مؤشراً على توتر العلاقة الثنائية لا العكس.لكن بنظر موسكو، يتعلق التحدي الصيني على مستويات عدة بالتغير المناخي. يدرك الروس أن هذا التحدي جدي أو حتى حاسم. لكنهم لا يعرفون كيفية التعامل معه ويخشون أن تكون التدابير التي يفرضها صعبة ومكلفة. لذا يتعاملون مع هذا الملف كمشكلة مستقبلية ويعطون الأولوية راهناً لمشاكل ملحة لكن سهلة الاحتواء، بدءاً من الانتقادات الغربية وصولاً إلى الاحتجاجات في الشوارع.إلى متى سيستمر هذا التظاهر المتعمد؟ أدت الاستثمارات الصينية في منطقة بحيرة «بايكال» إلى احتجاج السكان المحليين، فعبروا عن مخاوفهم بشأن البيئة وعن سخطهم القومي في آن. ورغم زيادة اتكال المؤسسات في الشرق الأقصى الروسي على الشراكات الصينية، تبرز مؤشرات على تنامي ردود أفعال سياسية عدائية.لكن حتى الآن، لن يُحدِث هذا الوضع أي فرق. موسكو تعتبر الصين قوة ضرورية لمواجهة الغرب، وخوفاً من العقوبات، يستعمل عدد كبير من الحكام الفاسدين الشركاء والوسطاء الصينيين لنقل أموالهم غير المشروعة وتبييضها.لكن لا تبقى تلك الأموال في الصين، بل إنها مجرد محطة موقتة في الطريق نحو الغرب الذي لا يزال الوجهة النهائية لأموال النخبة الروسية. إنها استعارة مناسبة لوصف روسيا التي، رغم اتفاقياتها الراهنة مع بكين، تؤيد الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في قناعته القائلة إن «أوروبا تمتد من لشبونة إلى فلاديفوستوك»!
دوليات
تحالف مزيف بين روسيا والصين إلى متى هذه الصداقة الغريبة؟
30-08-2019