طرحت في المقال السابق تساؤلاً حول الأهداف الرئيسة للمناهج الدينية التي تدرس في آلاف المدارس والمعاهد الدينية الممتدة عبر العالمين العربي والإسلامي، وذكرت خمسة أهداف، أجملها، هنا، للتذكير بها في ثلاث نقاط: أولاً: تعميق انعزالية الطالب عن العالم وتعميق الكراهية في نفسيته، بحجة أننا أمة مستهدفة من قبل أعداء متربصين، لا همّ لهم إلا الكيد والتآمر والفرقة وإثارة الصراعات بين المسلمين، حتى لا يتوحدوا ويتعاونوا وينهضوا ويتقدموا ويتملكوا أسباب المعرفة العلمية والقوة التي قد تشكل مصدر خطورة على مصالحهم في المنطقة.
ثانياً: التحذير من خطورة الغزو الفكري والعولمة والعلمانية والاستشراق والتبشير والأفكار الإلحادية والعقائد الهدامة والفرق الضالة... إلخ. وذلك بهدف تحصين الطالب المسلم نفسياً وفكرياً في مواجهة هذه المذاهب والمدارس والتوجهات والأفكار والفرق الباطلة والمنحرفة. ثالثا: التحذير من فتنة المرأة وغوايتها، كونها مصدراً لإثارة للرجل، وأشبه بمصايد للشيطان، وسبباً للانحراف والوقوع في المعاصي، ومن هنا كان ضرب النقاب عليها ومنعها من الخروج، أمراً مشروعاً بل مطلوباً، بهدف صيانة كرامتها وحماية المجتمع من الانحراف، ودعم الفضيلة والعفة والشرف والأخلاق الفاضلة.هذه أبرز المضامين والأفكار التي تناولها المقال السابق، وأضيف هنا سمات أخرى تتصف بها هذه المناهج، منها:1- معظم هذه المناهج تتبنى موقفاً رافضاً لـ"الحداثة" و"الفكر التنويري" ومعادياً لـ"الفلسفة" كما تتوجس من "فكر التغيير والتجديد"، باعتباره نوعاً من البدع المحدثة، كما تضيق بأجواء الفرح والبهجة والزينة والتيسير على العباد ورفع الحرج عنهم، وتميل إلى فقه التشدد، اتقاء للشبهات وعملاً بالأحوط.2- وسداً لذرائع الفساد، تحرم هذه المناهج مباحات ورخصاً ووسائل مشروعة، تخوفا من عواقب قد تأتي غير محمودة، وإذا كان هناك رأيان فقهيان في أمر أو قضية خلافية، مثل: إطالة اللحية، فرض النقاب، خروج المرأة، عملها، دورها التنموي والسياسي والاجتماعي، توليها المناصب القيادية، توليتها القضاء، الولاية عليها، اختلاطها بالرجال، الموسيقى والغناء، التصوير، الاحتفال بالمولد الشريف، الاحتفال بيوم الهجرة النبوية، الاحتفال برأس السنة الميلادية، عيد الأم، تقصير الثياب، السفر إلى بلاد غير المسلمين، التجنس بجنسيتها، التشبه بهم، تحية العلم، الوقوف للنشيد الوطني، الاحتفال بالأعياد الوطنية... إلخ. نجد غالباً أن هذه المناهج تغلب الرأي المانع أو غير المُجيز.لذلك نجد أن خريجي هذا النمط من التعليم الديني، يضيقون بأجواء الحريات، ويساندون جهات الرقابة والمصادرة للإبداع الفكري والفني، ويشرعنون للشرطة الدينية (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)، ويسيئون الظن بالمنظمات الحقوقية الدولية، والجمعيات النسوية المطالبة بحقوق المرأة، ويؤيدون مطاردة أصحاب الفكر، ويسارعون إلى اتهام المخالفين لهم، وسوء الظن بهم، من الحداثيين والعقلانيين والليبراليين والتنويريين وغيرهم، بتهم الانحراف العقدي، وقد تصل هذه التهم إلى التكفير والارتداد واستباحة الدم، وخريجو هذه المناهج يرون أنفسهم حماة الفضيلة، وحراس الدين والهوية، والأوصياء على المجتمع، بل وكلاء المولى تعالى في الأرض، ولا أدل من كتاب "الانحراف العقدي في أدب الحداثة وفكرها" المطبوع والمتداول بثناء وتمجيد من قبل علماء كبار، كفر فيه صاحب الكتاب، والذي هو في أصله، رسالة دكتوراه مزكاة، أكثر من 200 مفكر وشاعر عربي من مفكري ورموز العقلانية والتنوير، قال عنهم: إنهم كفار ومرتدون، مستباحة دماؤهم، ووصف الشعراء العرب الحداثيين بشعراء الدعارة والإلحاد والكفر! ولا عجب فيما انتهى إليه الباحث ولا غرابة، فهذه نتيجة منطقية طبيعية، من هذا الباحث وغيره من الذين أمضوا عمراً في هذا النمط من التعليم المنغلق وتخرجوا فيه!! 3- إشاعة مظاهر البؤس والكآبة في المجتمع: إذ تحارب هذه المناهج وتحرم الفن والتصوير والموسيقى والغناء، وكل أجواء الفرح والترفيه والبهجة وثقافة حب الحياة وفن الاستمتاع بنعمها وزينتها، والتي هي نعم الله تعالى على عباده، فإنما تشيع أجواء كئيبة خانقة تزيد من بؤس المجتمعات العربية والإسلامية وكآبتها. وللحديث بقية. * كاتب قطري
مقالات
نحو تعليم ديني متصالح مع العالم (2)
02-09-2019