همس الوسادة
كانا على معرفة طويلة، ربما تقاطعت طرقهما وأحيانا بعدت ولكنهما بقيا يطلقان على طبيعة العلاقة التي تجمعهما الصداقة الحميمة، وهي ذات تفسيرات عدة ربما، ابتعدت هي وأخذتها ظروف مختلفة، وفي يوم أرسلت له رسالة قصيرة قبل الواتساب والفايبر وغيرهما من الوسائل السريعة، اختصرت العبارة "لقد تزوجت" ابتسم هو غير مصدق الخبر السعيد، فقد كان هو مزواجا، وكانت هي العكس تماما، ودائما ما تردد عليه أن الزواج مؤسسة فاشلة، وهي صراع على من يتحكم في الآخر أو يفرض رأيه أو سيطرته.بعد ذلك انقطع التواصل بينهما وبقي "يتشمم" أخبارها عبر الأصدقاء المشتركين، فعرف بعض أيامها ومدنها وقليلا عن كيف تسير أحوال تلك المؤسسة التي لطالما تمردت هي عليها، في حين هو لا يستطيع أن يعيش دونها، وكان قد قال لها عندما يحتدم النقاش حول الزواج، إن الإنسان بحاجة إلى الرفقة وألا يبقى وحيداً، هو يخاف الوحدة حد الموت فتتناوبه الكوابيس والاكتئاب الذي يفضل هو تسميته بالملل من الروتين، فيقول ضاحكا "من البيت للمدرسة"! في حين هو مهندس معماري مهم في بلد كما كل الدول لا تتوق إلى الإبداع حتى في المعمار، بل يعتمد على الصور النمطية للعمارات والبيوت، وكان هو يقول لو اعتمدنا لوناً معمارياً واحداً لكان ذلك جميلاً، مثل تونس على سبيل المثال، إما أن نعتمد النماذج نفسها ثم نشوهها بتلك الألوان والأعمدة وخليط من الهندسة الرومانية القديمة على المغربية أو حتى الإسلامية، وكان بعضهم أو المتفزكلون منهم والمحاولون أن يستعرضوا عضلات الثقافة المسطحة يرددون: نريد نموذج حسن فتحي ذاك الذي بنى وأحسن البيوت للفقراء بطراز بسيط، ومن المواد المتوافرة في البيئة، حتى أصبح يدرس في الجامعات المتقدمة. هو كان كثير الشكوى من جهل العامة وخاصة محدثي النعمة من قلة الذوق والفهم وثقافة الترقيع والتقليد الأعمى، أنماط مكررة بألوان قبيحة وتفاصيل غير خاصة، هو الذي يتصور أن البيت ليس منزلا فقط، بل سكن لأي من المساكنة في المكان كما يردد، ويعني أنه أكثر من مكان حجري يغطي أو يستر أصحابه في مكان مشترك.
مضت سنون طويلة قبل أن تعود هي إلى الوطن لتسمع أن زوجته الرابعة أو الخامسة وهي التي تردد لقد تعبت من العد، فكلما التقيت بأحد بالمصادفة في مكان بعيد لم يكن من أخبار ذاك الصديق سوى زواج جديد، وكان أصدقاؤه يرددون "يا شيخة الحمدلله أنه لم يخلف من كل هذه الزيجات". عند عودتها قيل إن زوجته الأخيرة قد توفيت، وهي كانت أصلا ضعيفة جداً ولا تقوى على الحياة، وأنه بعدها قد أصيب بالإحباط والقنوط وانعزل عن كل الأصدقاء، ولم يعد يهوى ذاك العشاء من كل أسبوع، حيث تتحلق الشلة القديمة بعد أن شاب الشعر وتضخمت الكروش، يعودون إما للحديث عن هموم المصاريف المدرسية والتذمر من العمل الكثير والمدخول الذي يتبخر سريعا بفعل الغلاء وكثرة المتطلبات الأسرية، لكن وبعد بعض الكؤوس وكثير من الأكل يتحولون للذكريات، يفتحون الدفاتر القديمة يضحكون كما الأطفال، أو كما كانوا شباباً مراهقين، حتى بعد سنوات المراهقة... عن نزوات وعلاقات قبل الزواج وبعده، عن سفريات عمل وفرت فرصا للالتقاء بنساء مختلفات، أو هكذا تصوروا ليكسروا ملل الحياة الزوجية ثم يعودوا لحضن الزوجة!! وتبقى تلك المرأة متصورة أنه كان حباً حقيقياً رغم أنهم جميعا يعترفون لبعضهم أنه الملل والروتين وبعض الشيطنة المتبقية من تلك السنين البعيدة. عندما ذهبت لعزائه وجدته رغم مسحة الكآباة الواضحة سعيداً برؤيتها، وبدأ حديثاً لم يكن له نهاية حتى استأذنته هي لأنها على موعد، لم يتركها بعد تلك اللحظة ربما لم يمنعه من أن يكون ظلها سوى انشغالها بعملها وكثير من العمل الاجتماعي والصداقات الواسعة و... و... لم يكن ييأس أبدا من أن يدعوها على وجبة عشاء، وإن تعذرت منه لارتباطات مسبقة فالغداء إذاً، وذات غداء وكانت قد توقعت كل شيء إلا هذا السؤال: "هل تتزوجيني"؟ ضحكت حتى شرقت من الضحك، وهو يتطلع لها بكثير من الاستغراب، فما المضحك في مثل هذا الطلب الذي تتمناه الكثير من النساء واللاتي هن أصغر منها بكثير؟ ربما قال لنفسه ما لها تتصور أنها لا تزال تلك الفتاة الصغيرة ذات الجمال الخاص؟ لم تستمر جلستهم في ذاك المساء طويلا هو أصيب بشيء من خيبة الأمل وهي كانت غير مصدقة العرض الذي يتصور هو أنه مغرٍ. لم تمر أيام حتى باح لها كما الطفل بأنه لا يرغب من الزواج سوى تلك اللحظات الحميمية المشتركة، وكان أول من سمعته يقول إنه يهوى وشوشة الوسادة في نهاية يوم متعب، وإن كل ما يطلبه منها هو تلك اللحظات التي يهويان فيها إلى السرير بعد يوم طويل ليفشي كل منهما مشاكل اليوم، ويتخلص من كل التعب، ثم يغفو على تلك الوشوشات. حتى هذا العرض لم تفهمه هي وقررا الافتراق، وما هي سوى أيام حتى سمعت بخبر ارتباطه وزواجه السريع، وفي حفلة الزواج التي جمعت الأصدقاء الأكثر قربا نظر لها وردد لعلك يوما تفهمين معنى همس المخدة أو وشوشتها!* ينشر بالتزامن مع «الشروق» المصرية