في ظل الواقع الملغم بالمحظورات فمن الطبيعي استمرار ملاحقة المفكرين ودعاة الحرية وتصفية هؤلاء جسدياً ومعنوياً كما لم يكن المبدعون أوفر حظاً بل أصابتهم أيضاً لعنات حماة الأخلاق وسجلت أعمالهم في القائمة السوداء غير أن السياسات الرامية لتضييق مساحة الإبداع وتهميش النتاجات الفكرية والأدبية المغذية للحس المتمرد على التدجين بأشكاله المتعددة ناهيك عن إطلاق الحملات الترويجية المبرمجة من على المنصات الإعلامية لبث مضادات المشروع التنويري.كل ذلك لم يمنع ظهور العوامل التي تعزز رغبة الخروج من الوصاية والحفر في تربة جديدة والتحليق خارج السرب لعل العزوف عن المشاركة في العمليات السياسية المبهرجة بشكليات الحداثة والمثقلة في حقيقتها بأوبئة التخلف يكون مؤشراً لمرحلة يتبلور فيها وعي الفرد الذي يرفض الانضواء تحت مظلة الأجهزة المؤسسة للقمع والتعذيب.
عودة الوعي
إذا كان تزييف الوعي وتوقف المبادرات الفردية نتيجة عقود من الاستبداد والمشاريع التعبوية وانسداد الأفق من بديهياتنا التاريخية هنا يجوز أن نتساءل عن رهانات الإبداع في مقاومة الواقع المزري، وماهي أوجه مشاركة العمل الإبداعي في تنمية الوعي لدى الفرد وتمكينه لاستعادة هويته؟ وكيف السبيل لتحديد تمظهرات العلاقة بين أنماط الوعي والفعل الإبداعي؟ فالمتابع لايخطئ ملاحظة مارافق الحراكات الجماهيرية منذ انطلاقتها في تونس وجود الأشكال الفنية الجديدة من الجداريات والأغاني والمنشورات الفيسبوكية بوصفها آلية للتعبير عن الذوات الغائبة والتطلعات المستقبلية.الأجناس الأدبية
من المعلوم أن الرواية من أكثر الأجناس الأدبية حضوراً في الوقت الراهن، كما أن مساحة تداولها في البيئات المختلفة آخذة في ازدياد بحيث تغطي الرواية التطورات المتلاحقة متفاعلة في هذا السياق مع الصحافة والروابط الإلكترونية وشبكات الإعلام الرقمي.وليس من الصواب تفسير ظاهرة التضخم الروائي بناءً على عامل بعينه ونقول إن الرواية تلبي الرغبات الاستهلاكية والمعنى أن قراءة الرواية لاتختلف عن استهلاك الأطعمة الجاهزة ويقدم كل من القارئ والمستهلك في المحصلة الأخيرة خدمة لحركة السوق الرأسمالية، وقد يكون هذا التحليل صحيحاً بالنسبة لبعض الروايات التي تكتسح السوق لمدة ومن ثم تستنفد صلاحيتها.ولاشك أن أفق فن الرواية أوسع من أن يختزل في شكل معين، والحال هذه لابد من مقاربة الموضوع من زاوية أوسع.ولا ينكر بأن عنصر المتعة دافع أساسي لقراءة الرواية كما يذهب إلى ذلك الكاتب البريطاني سومرت موم لكن لماذا لايعوض القارئ متعة الرواية بمشاهدة الأفلام السينمائية مع أن المؤثرات الفنية في الفنون المرئية تضيف مزيداً من التشويق إلى المادة؟ وعلى الرغم من توفير الروايات المسموعة على القنوات الإلكترونية ظلت الأسبقية للقراءة ولايمكن التنازل عن متابعة مباشرة دون وسيط سواء أكان صوتياً أو مرئياً.ويكمن السرد وراء أفضلية القراءة دون بدائلها أن القارئ ما يشرع بمتابعة محتويات الرواية حتى يتحول إلى مشاهد خلّاق على حد قول "ماريو بارغاس يوسا" ولن يكون محكوماً برؤية خارجية ويطلق العنان لخياله حراً.وبذلك يستعيد القارئ وعياً بذاته ويتخفف من مهيمنات الحشود والجماعة التي يقوض الخيال مسوغاتها. ومن المعلوم أن السلطة توظف تقانات متنوعة لتجفيف الخيال ولا تقبل بالأعمال الإبداعية إلا في الحدود التي تخدم مصالحها.رواية بديلة
سبق للمفكرة المغربية الراحلة فاطمة المرنيسي أن تناولت الخصومة القائمة بين الخيال والسلطة إذ تعتبر صاحبة (شهرزاد ترحل إلى الغرب) الخيال ملجأ الفردية الأصعب ترويضاً وتصفه بالحديقة السرية للمرء الذي ينجو من المراقبة وكيل التهم ولايتقيد بالإكراهات الخارجية.وتعزو المرنيسي في كتابها (الخوف من الحداثة) محاربة السلطة لصاحب المشروع التنويري لكن الأخير يحاول إدخال المفاهيم الجديدة إلى الفضاءات الخانقة وينفتح على الرؤى الفلسفية مما يهدد الواقع القائم والأنساق السلطوية بالاستناد إلى ما ذكر آنفاً عن دور الخيال في تشكيل هوية الفرد وتمكينه للارتياد لما بعد الخطوط المرسومة. ويمكن فهم تصاعد نسبة قراء الرواية والإقبال عليها بأنه رفض للمرويات الرسمية ومسعى لإدراك خصوصيات الذات من خلال طرح الافتراضات والسؤال عن الامكانيات المنسية بعيداً عن المرجعيات التقليدية.فالرواية لم تعد مجرد مصدر للتسلية والامتاع إنما قد تكون الغاية من قراءتها هي التزود بمعرفة ما يدور في الأوساط السياسية والاجتماعية عن طريق تحليل الظواهر المنتشرة في الواقع على ضوء مارصده الروائيون في مؤلفاتهم، مثلما يتبع الكاتب والروائي التونسي كمال الرياحي هذا المنهج في سلسلة مقالاته المنشورة بعنوان "الروايات التي يحتاج التونسيون لقراءتها لينتخب رئيسهم"، إذن الرواية شأن أي حقل معرفي آخر لايجوز مقاربة مساراتها وفق منطق اختزالي، أضف إلى ذلك أن التحولات التي يشهدها النص الروائي سواء في صيغه التعبيرية أو ثيماته الجديدة يفرض آلية منفتحة على شتى الحقول المعرفية لقراءة المنجز الإبداعي ما دام عدد من الروائيين يستفيدون من خبراتهم العلمية والمهنية في مشروع الكتابة، وبهذا يكون العمل الإبداعي أكثر تواصلاً مع المستحدثات دون أن يفقد خصائصه الفنية.ونحن بصدد الحديث عن فتوحات روائية إن جاز التعبير نؤكد أن أياً كان موضوع النص الروائي وشكل ترتيبه البنائي يتم التعامل معه بوصفه منجزاً أدبياً قابلاً لمساءلة القارئ الذي يملأ ثغراته وهكذا يتعاظم دور الرواية في تعميق مفهوم الذاتية وصوغ هوية الفرد في واقع متشبع بإرغامات سياسية ودينية واجتماعية.