رأي : «الأموال العامة» وشبهة عدم الدستورية
لما كان الأصل - وهو ما قررته محكمة التمييز- بأن المشرِّع ترك للقاضي سُلطة مطلقة في تقدير العقوبة بالنسبة لكل متهم في الحدود المقررة بالقانون للجريمة وإعمال الظروف التي يراها مشددة أو مخففة مادام ما انتهى إليه لا مخالفة فيه للقانون.وعطفاً على ما تقدم، فإن المحكمة الدستورية تصدَّت لمحاولة تغول المشرِّع على سُلطة القاضي الجنائي في التفرد بالعقوبة، وحكمت بعدم دستورية مادة بقانون غسل الأموال وتمويل الإرهاب ومادة تقابلها بقانون الاتجار بالبشر بما يتعلق بحرمان القاضي الجنائي بتطبيق نص المادة 81 من قانون الجزاء، أي أن عدم جواز تكبيل يد قاضي الموضوع وتسييره بالعقوبة وسلب حقه بالتقرير بالامتناع عن النطق بالعقاب هو ملخص حكم الدستورية المنوه عنه. وباستقراء الفقرة الأولى من المادة 20 من القانون الرقيم 1/ 1993 بشأن حماية الأموال العامة، التي تنص على أنه «لا يجوز تطبيق المـادة 81 من قانون الجزاء بأي حال على جريمة من الجرائم المذكورة في هذا القانون إلا إذا بادر الجاني برد الأموال موضوع الجريمة كاملة قبل إقفال باب المرافعة في الحالات التي يجب فيها الرد». يجد الكاتب أنها تحوم حولها شبهة دستورية، ليس لكونها تخالف مبدأ تفرد العقوبة فحسب، بل إنها تخالف حكم المادة السابعة من الدستور، وفيما يلي يضع الكاتب بيني يدي القارئ الفرضية الآتية:
لو افترضنا جدلاً أن مُتهما -موظفا عاما- قُدم للمحاكمة بتهمة إفشاء الأسرار المنصوص عليها بالمادة 13 من قانون حماية الأموال العامة، كيف سيتسنى له طلب الرأفة المنصوص عليها بالمادة 81 من قانون الجزاء والجريمة ليست من جرائم الأموال، حتى يستفيد من تحقق موجبات المادة 20، بمعنى أن المشرِّع جنح إلى تعليق صلاحيات المحكمة لتحقق موجبات المادة 81 من قانون الجزاء على شرط، وهو بمبادرة الجاني برد الأموال موضوع الجريمة كاملة قبل إقفال باب المرافعة، وأن هذا الشرط يحمل في طياته ممايزة في المراكز القانونية للمتهمين المقدمين للمحاكمة في الجرائم المنصوص عليها بقانون حماية الأموال العامة بالاستيلاء على المال العام، على سبيل المثال، ويواجهون عقوبة جناية، ويكون لهم الحق بالاستفادة من المادة 81 من قانون الجزاء إذا بادروا برد الأموال، فيما بالعكس حال مَن يواجه عقوبة جنحة، وهي أقل جسامة كجنحة إفشاء الأسرار، لأن المادة 13 تتحدث عن فعل إفشاء سر وليس استيلاء على مال، لذلك ليست هناك أموال يستولي عليها الجاني حتى ينطبق عليه شرط رد الأموال، وبالتالي لا يتحقق بها الشرط الذي قرره النص، وهو «بمبادرة الجاني برد الأموال»، وبالتالي لا يمكن أن ينطبق عليه الشرط المنصوص في المادة 20/1 المشار إليها، الأمر الذي يحمل في ثناياه أن الفقرة الأولى من نص المادة 20 من قانون حماية الأموال العامة تخالف أيضاً حكم المادة 7 من الدستور، التي تنص على أن «مبدأ العدل ومبدأ المساواة دعامات المجتمع».صفوة القول، إن المادة 20/1 من قانون حماية الأموال العامة، علاوة على أنها تحمل في طياتها حرمان القاضي من تقدير العقوبة التي تناسبها، فيُعد بذلك إخلالاً بنظام التقاضي، وإهداراً لضوابط المحاكمة المنصفة للمتهم في مجال فرض العقوبة، وتدخلا محظورا من السُّلطة التشريعية في شؤون القضاء واستقلاله – كما وصفته المحكمة الدستورية بالطعن رقم 1/ 2018 دستوري الصادر في تاريخ 24/ 10/ 2018، إلا أن من شأن تلك الفقرة حرمان المتهم الذي يرتكب جريمة إفشاء أسرار وفق المادة 13 من قانون حماية الأموال العامة المشار إليها من تطبيق قواعد الرأفة، سيما أنها تحمل في طياتها تمييزاً بين المتهمين بجرائم مغايرة؛ فمنهم من يستفيد من أدوات الرأفة في عدم النطق بالعقاب بعد رد الأموال، وآخرون مقدمون للمحاكمة بجريمة إفشاء أسرار محرومون منها، كونهم لم يقوموا بالاستيلاء على أموال عامة بالمخالفة للمواد: 7 و34 و50 و163 و173 من الدستور.لذلك، على المشرِّع معالجة الخلل الوارد بالمادة 20/1 من قانون حماية الأموال العامة، والعمل على تصحيح مسار تلك الفقرة بما يتماشى مع مواد الدستور.