صُعِقت حين تم إبلاغي بإنذار من بعض الهيئة التمريضية بأحد المستشفيات العامة، فحواه أننا لن نزود مريضتك بالدم الذي تحتاج إليه إلا بعد أن تتبرعوا بالدم أولاً، ويتكرر الإنذار مع تكرار الحاجة إلى نقل الدم... وغني عن القول أن إنذاراً كهذا ليس بمبادرة من هيئة التمريض ولا الهيئة الطبية. وحين يصبح الأمر قضية حياة أو موت يصبح الخضوع للأمر الواقع هو الخيار المنطقي الوحيد لأهل المريض، وفي مثل هذه الحالة خصوصاً، مع تعطيل مفعول قسَم الطبيب الذي يقضي بأن يصون حياة المريض؛ فقد تم عملياً استبعاد دور الطبيب من المعادلة، فيمكنه أن يعلن أن حالة المريض طارئة أو حرجة ويحتاج إلى نقل دم، لكنه ليس صاحب الكلمة النهائية والنافذة في هذه المسألة، بل بنك الدم، وأصبحت القضية بيروقراطية، ومتى دخلت البيروقراطية من الباب خرجت المشاعر الإنسانية من الشباك.
الوضع مدعاة للعجب والاستغراب؛ لاسيما في دولة بغاية السخاء في الإنفاق على الصحة العامة وخدماتها، كما لا يبدو أن التكلفة المالية عنصر في مكونات المشكلة. لقد تمت مراجعة المعنيين في وزارة الصحة وبنك الدم، فأنكروا أن ذلك التهديد من سياستهم، واستنكروه، لكن لماذا كل هذا العنت؟ ولقد تجاهلت الجهات المعنية مضامين الخطاب الصادم، ومنها احتمالات نشوء إشكال سياسي في حالة وفاة مريض، لا سمح الله، يعتقد أهله خطأ أو صواباً أن الوفاة نجمت عن عدم تزويد مريضهم بالدم في الوقت المناسب. يبدو أن السبب الرئيسي للمشكلة هو توقف بنك الدم عن تقديم مكافأة مالية للمتبرعين الذين يطلبونها، وهي السياسة التي اتبعها بنك الدم مند إنشائه، وبطبيعة الحال، فقد جف هذا الرافد الآن، ويبدو أن نسبته من بين مصادر بنك الدم مؤثرة، ولابد من تعويضها بأي شكل من الأشكال. إن الامتناع عن شراء الدم في الأساس موقف دولة، وهو تأييد لموقف منظمة الصحة العالمية المعلن منذ فترة بأن تجميع الدم لابد أن يكون حصيلة التبرع تطوعاً وبلا مقابل. وموقف المنظمة من تحريم شراء الدم يستند إلى اعتبارها أن الدم في مقام عضو من أعضاء الجسم البشري، والمتاجرة بالأعضاء محرمة، غير أن تقرير المنظمة الصادر في يونيو 2019 يذكر أن 58 دولة ما زالت تعتمد على شراء الدم لتعزيز احتياطياتها منه. وتصنف منظمة الصحة العالمية الدول الملتزمة بسياساتها في تجميع الدم أساساً بأنها من الدول المرتفعة الدخل، ويرى البعض أنه لا يليق بدولة كالكويت أن تشتري الدم، وهي في مصاف الدول عالية الدخل، فضلاً عن التحالف الطبيعي بين دولة الكويت والأمم المتحدة ومنظماتها، وهذا موقف سياسي. إن موقف سكان العالم من التبرع بالدم جزء من الثقافة المجتمعية، لكن التركيبة السكانية في الكويت مكونة من 30% مواطنين و70% وافدين من دول ومجتمعات متنوعة، أغلبيتهم العظمى من مجتمعات متواضعة الدخل، وبالتالي فتبرعهم بالدم بشكل تلقائي في غير الحالات الخاصة المشحونة عاطفياً ليس جزءاً من ثقافتهم الاجتماعية، ويصطبغ تصرف جملة السكان بلون الأغلبية في هذا المقام. ربما ساعد الأسلوب الحالي القسري في تجميع الدم على سد الثغرة الكمية، أو بعضها، الناتجة عن توقف بنك الدم عن شراء الدم. نعم تستحق كل الثناء المجتمعات التي توفر الدم لبنوك الدم فيها دون شرائه ودون وضع حياة المريض رهينة في سبيل تجميعه، وبالتالي الإساءة إلى إنسانية الطبيب. ربما لم يعد من الممكن العودة عن قرار الامتناع عن شراء الدم، لكن ينبغي التوقف عن استخدام الخطاب التهديدي على الأقل، ويمكن التعاون مع جمعيات النفع العام مثل الهلال الأحمر الكويتي لتطوير برامج مستمرة لاستقطاب المتبرعين بالدم، مستفيدين من تجارب الدول الأخرى، وخصوصاً تلك التي تتشابه مع الكويت في التركيبة السكانية.
أخر كلام
توحُّش البيروقراطية
12-09-2019