لم يتأثر القادة الإيرانيون بخطط الاتحاد الأوروبي الرامية إلى إنشاء «كيان ذي أغراض خاصة» لحماية التجارة الإيرانية من العقوبات الأميركية، في المقابل اتخذت الحكومة الروسية خطوة حاسمة لمساعدة إيران على تجاوز العقوبات من خلال السماح لها بنقل النفط الخام عبر موانئ شبه جزيرة القرم. هذه ليست المرة الأولى ولا الأخيرة التي تتحرك فيها روسيا لمنع عزل إيران سياسياً واقتصادياً، فقد عمدت في السابق مثلاً إلى تزويدها بأسلحة وتكنولوجيا عسكرية متطورة. لطالما وقفت روسيا في وجه أي عقوبات ضد إيران، فكانت تستعمل حق النقض في مجلس الأمن لمعارضة القرارات التي لا تصبّ في مصلحتها.

تكلّم نائب رئيس حكومة شبه جزيرة القرم، جورجي مرادوف، عن أحدث توسّع للتعاون الروسي الإيراني وأعلن أن إيران تستطيع استعمال موانئ الأرض الروسية المتنازع عليها لنقل النفط. صدر هذا النبأ بعد شهرين على إعلان موسكو وطهران تنفيذ تدريبات بحرية مشتركة في مضيق هرمز، وأبرز نقطة اختناق في الخليج العربي وأهم شريان نفطي استراتيجي في العالم حيث صادرت إيران ثلاث ناقلات نفط حتى الآن هذه السنة. كانت الجهود الروسية الرامية إلى مساعدة إيران على تجنب العقوبات وتوسيع التعاون العسكري بين البلدَين بدرجة غير مسبوقة كفيلة بترسيخ «زواج المصلحة» بين روسيا وإيران، ولو رمزياً.

Ad

ظهر أول مؤشر على توسّع التعاون العسكري بين موسكو وطهران في عام 2016، حين أطلقت روسيا أسطولاً من القاذفات باتجاه سورية من قاعدة جوية إيرانية. كانت المرة الأولى التي يطلق فيها جيش أجنبي عملية من الأراضي الإيرانية منذ 100 سنة تقريباً. تمنع المادة 146 من الدستور الإيراني تمركز أي قوات أجنبية على الأراضي الإيرانية، ولو لأغراض سلمية، لذا كانت تلك المناورات رمزية بطبيعتها ودليلاً على زيادة التوافق بين المصالح الروسية والإيرانية. لا يمكن اعتبار التفاعلات بين هاتين الدولتين «تحالفاً» حقيقياً بالضرورة (لم يتّضح مثلاً مدى استعداد روسيا أو إيران للانتشار عسكرياً في حال تعرّض الطرف الآخر للهجوم)، لذا من الأفضل وصف الشراكة الروسية الإيرانية بـ»الاصطفاف».

تبدو الشراكة بين موسكو وطهران غريبة نظراً إلى خطاباتهما التاريخية وخلفياتهما الأيديولوجية المتباعدة. تتعدد الأوصاف التي نُسِبت إلى الاصطفاف الروسي الإيراني، بدءاً من «الشراكة العشوائية» وصولاً إلى «التحالف الظرفي»، لذا يبقى الغموض بينهما سيّد الموقف. عملياً، شهدت مناورات موسكو مع إيران تقلبات كثيرة وتراوحت بين التعاون والصراع. يسود توقّع مفاده أن الكرملين يرتكز في تحركاته على مقتضيات الواقعية السياسية القاسية وأنه قد «يبيع» إيران مقابل عقود دفاعية وعسكرية مربحة مع «أقوى خصومها» إقليمياً، على غرار المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة. يُقال أيضاً إن موسكو أعطت «الضوء الأخضر» لإسرائيل لضرب أهداف إيرانية في سورية، لكن رفضت في المقابل تحديث بطارية الصواريخ الدفاعية الجوية الإيرانية عبر تزويدها بنظام «إس-400». كذلك، يبدو أن روسيا أهملت عضوية إيران في «منظمة شنغهاي للتعاون» (مع أن اللوم يجب أن يقع على الصين)، وحرمت طهران من تريليونات الدولارات نتيجة توقيع «اتفاقية الوضع القانوني لبحر قزوين» غير المتوازنة في أغسطس 2018.

إنه جزء من الحجج المتكررة لإثبات تملّص موسكو من التزامها مع طهران، لكن لا يوافق الأميرال الخلفي علي شمخاني، أمين عام «المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني»، على هذا الرأي، فخلال اجتماع مع مسؤولين روس في طهران، في يوليو 2019، شدّد شمخاني على المسار الإيجابي للتعاون الروسي الإيراني، وعبّر عن امتنانه للمواقف الروسية «الحاسمة والنزيهة» تجاه إلغاء الولايات المتحدة للاتفاق النووي من عام 2015 (أي «خطة العمل الشاملة المشتركة»)، والوجود الإيراني في سورية، واختراق طائرة تجسس أميركية بلا طيار للأجواء الإيرانية، ومصادرة بريطانيا لناقلة إيرانية مقابل ساحل جبل طارق.

في 2 سبتمبر، كرر وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، خلال محادثاته مع نظيره الإيراني جواد ظريف في موسكو، موقف الكرملين، متّهماً الولايات المتحدة بمحاولة «استفزاز إيران علناً، بدعمٍ من بعض حلفائها الإقليميين». كذلك، أشاد لافروف بمحاولات فرنسا الأخيرة لحل الأزمة وإقناع الولايات المتحدة برفع جزء من العقوبات عن إيران.

وفق نظرية أخرى، تتوقف درجة توسّع التعاون بين روسيا وإيران أو تراجعه على مدى تقارب العلاقة الأميركية الروسية أو عدائيتها. تشمل هذه الفكرة جزءاً من الحقيقة: بالعودة إلى عهد ميدفيديف، صوّتت روسيا لصالح القرارات الستة المرتبطة بإيران في مجلس الأمن بين العامَين 2006 و2010. لكن لن تتخلى روسيا عن إيران من أجل الولايات المتحدة في ظل المناخ الراهن، نظراً إلى وجود شرخ جوهري بين المفاهيم الروسية والأميركية حول النظام العالمي بعد الحرب الباردة. تتطلب العودة الدائمة إلى المحور الأميركي تعديل السياسة الخارجية الأميركية تجاه الكرملين بناءً على تقديم التنازلات، بحسب الأولويات والانشغالات الروسية التقليدية. يفرض هذا الوضع في الحد الأدنى أن تكبح واشنطن توسّع حلف الناتو شرقاً بشكلٍ دائم وتغفل عن الطموحات الجيوسياسية الروسية في الدول السوفياتية السابقة، وهو سيناريو غير وارد.

يرتكز توازن حذر بين الأولويات الجيوسياسية والاستراتيجية بناءً على مفاهيم متشابهة حول النظام العالمي. بسبب النظام العالمي الذي نشأ بعد الحرب الباردة وسمح بهيمنة الولايات المتحدة، أصبح الاصطفاف الاستراتيجي بين موسكو وطهران حتمياً. ثمة اصطفاف جوهري، أو حتى تحالف، بين البلدين، بمعنى أنهما يعارضان مفهوم الهيمنة، أي أن تفرض دولة واحدة أو مجموعة من الدول قيماً معيارية وهياكل سلطة محددة وتعطيها طابعاً عالمياً، لا سيما عند فرض تلك الأفكار بالقوة. لهذا السبب، تعطي الدولتان الأولوية للسيادة، وتستنكران التدخل الغربي، وتضطربان من الثورات الملونة أو الديمقراطية على اعتبار أنها وسيلة كي يخدم نظام السلطة الأيديولوجي الأطلسي مصالح الدول الغربية. تظن النخبة الثورية في إيران، تماماً مثل نظرائها في الكرملين، أن المبادئ الدولية الطاغية ترتكز على ازدواجية المعايير وتهدف إلى فرض هيمنة القوى الغربية. تعكس هذه الثقافة السياسية الخارجية المعادية للإمبريالية المناخ الفكري الثوري في إيران وأولويات البلد الاستراتيجية، وتوضح بذلك طبيعة علاقاته الثنائية مع روسيا مثلاً.

على الجانب الروسي، تُعتبر إيران لاعبة أساسية في سعيها إلى تطوير اصطفاف مناهض للهيمنة، وتتمنى أن تسمح جهودها بنشوء هندسة بديلة للشؤون العالمية، على غرار «الاتحاد الاقتصادي الأوراسي»، و»منظمة شنغهاي للتعاون»، ومجموعة «بريكس» (البرازيل، روسيا، الهند، الصين، جنوب إفريقيا)، كما تأمل تعميق التعاون مع «رابطة أمم جنوب شرق آسيا». في هذا السياق، يقول ريتشارد ساكوا إن نمط النظام العالمي بدأ يتغير، ويبدو أن فترة «السلام البارد» بين روسيا والغرب (تزامنت مع فشل المنظمات الأمنية الغربية في تجاوز مؤسسات الحرب الباردة وعاداتها، فيما أثبتت روسيا استعدادها للتكيّف مع المعايير والمؤسسات الغربية) تُمهّد لتخفيف حدة المواجهة الثنائية بين النظام الدولي الليبرالي ومقاومة مجموعة من الدول، بما في ذلك روسيا وإيران. يفسّر هذا الافتراض تعمّق التعاون بين الدولتين.

رغم المصالح المتضاربة والمسارات الجيوستراتيجية المتصادمة إذاً، تتقاسم روسيا وإيران رؤية عالمية جيوسياسية متشابهة ترتكز على تلك المعايير الثابتة وتُحدّدها الأفكار التاريخية والمفاهيم الموروثة، والخصوصيات الثقافية والحضارية، والقيم المعيارية، وخلفيات قديمة متشابهة ومرتبطة بالغرب. تظن خبيرة العلاقات الدولية ترين فلوكهارت أن شبكة معقدة من العلاقات «بين الأنظمة» ستُحدد طابع العالم المتعدد الأنظمة في المرحلة المقبلة. ستكون إيران وروسيا في موقع آمن ضمن هذا النظام المتداخل. لا تتعلق الفكرة الأساسية باقتلاع النظام الدولي، بل بإفساح المجال أمام دولٍ لا تتماشى مع النظام القائم، على غرار روسيا وإيران. لا بد من تقييم العلاقة الروسية الإيرانية التي تشبه «زواج المصلحة» أحياناً في هذا السياق تحديداً!