هوة كبيرة بين أولويات واشنطن والرأي العام الأميركي
رغم الخلافات السائدة في واشنطن اليوم، يسود إجماع نادر في أوساط السياسة الخارجية في الحزبَين الجمهوري والديمقراطي حول دخول العالم حقبة جديدة من المنافسة بين القوى العظمى. وفق هذا الإجماع الناشئ، من المتوقع أن يرسم الصراع بين الولايات المتحدة وقوى عظمى أخرى الخريطة الجيوسياسية في المرحلة المقبلة، نحو الأفضل أو الأسوأ، بالإضافة إلى الإرهاب والتغير المناخي والأسلحة النووية في إيران أو كوريا الشمالية، سينشغل صانعو السياسة الخارجية الأميركية في العقود المقبلة أيضاً بالتهديدات التي تطرحها القوى العظمى الأخرى، على رأسها الصين وروسيا.كانت إدارة دونالد ترامب المحرك الأساسي وراء هذه الأجندة الجديدة. فاعتبرت استراتيجية الأمن القومي التي نشرتها في ديسمبر 2017 أن الصين وروسيا تسعيان إلى "إنشاء عالمٍ يتعارض مع القيم والمصالح الأميركية"، فتصبح بكين بديلة عن الولايات المتحدة في منطقة المحيط الهادئ الهندي وتفرض روسيا نطاق نفوذها بالقرب من حدودها. حين طرح وزير الدفاع السابق جيمس ماتيس استراتيجية الدفاع الوطني الجديدة في يناير 2018، أعلن أن "المنافسة بين القوى العظمى، لا الإرهاب، أصبحت الآن محور الأمن القومي الأميركي". عبّر وزير الخارجية مايك بومبيو عن الفكرة نفسها في شهر أبريل، حين أخبر وزراء خارجية الناتو بأن العالم دخل "حقبة جديدة من المنافسة بين القوى العظمى"، مضيفاً في تصريح منفصل أن "الصين تريد أن تصبح القوة الاقتصادية والعسكرية الطاغية في العالم، حيث تنشر رؤيتها الاستبدادية في المجتمعات وممارساتها الفاسدة حول العالم". هكذا أصبحت عبارة "منافسة القوى العظمى" أحدث مفهوم في البنتاغون.
أمام الإجماع غير المألوف بين نخب السياسة الخارجية، من اللافت أن يعبّر الرأي العام الأميركي عن توجهات مختلفة بالكامل. في استطلاع نشره "مجلس شيكاغو للشؤون العالمية" مثلاً، صنّف المشاركون روسيا في المرتبة التاسعة على لائحة أخطر التهديدات المطروحة على المصالح الأميركية (بسبب ملف الهجرة واللاجئين) والصين في المرتبة الحادية عشرة (بسبب تنامي النزعة الاستبدادية). فضّل ثلثا المشاركين التعامل مع توسّع نفوذ الصين عبر التعاون والشراكة، في حين دعا 30% منهم فقط إلى الحد من قوتها. وفي أوساط الجمهوريين والديمقراطيين معاً، اعتبر عدد أكبر من الناس النفوذ الصيني مصدر تهديد في العامَين 1998 و2002 أكثر مما هو عليه اليوم.من المحتمل أن تنحسر الفجوة بين النخبة الحاكمة والرأي العام مع مرور الوقت، حين يعيد السياسيون التركيز على المخاوف التي تهمّ الشعب. قد يبدأ السياسيون وصانعو السياسة بالتكلم عن الإرهاب والتهديدات الإقليمية لكنهم لا يتخذون خطوات ملموسة إلا للتصدي للقوى العظمى الأخرى. لم يشدد ترامب في أول خطاب "حالة الاتحاد"، غداة نشر استراتيجية الأمن القومي مباشرةً، على تحديات منافسة القوى العظمى بل على الإرهاب وكوريا الشمالية والهجرة غير الشرعية. تحولت منافسة القوى العظمى إلى واقع ملموس في هذا العصر، ومن المتوقع أن تدوم لفترة طويلة مستقبلاً. تطرح روسيا تهديداً قوياً على المدى القريب، بشكل عام وغير حصري، بسبب تدخلها في الديمقراطية الأميركية. في الوقت نفسه، أصبحت الصين والولايات المتحدة عالقتَين في منافسة طويلة الأمد في المجالات العسكرية والاقتصادية والتكنولوجية والأيديولوجية. لكن لا يمكن أن تحصر الولايات المتحدة تركيزها بهذه المنافسة لأن الشعب الأميركي لديه أولويات أخرى. ما لم تُعالَج التهديدات الأخرى (هجوم إرهابي يوقع عدداً كبيراً من الضحايا على الأراضي الأميركية، أو سقوط صاروخ كوري شمالي بالقرب من الولايات المتحدة...)، يسهل أن تتزعزع مجموعة دقيقة من السياسات الرامية إلى مواجهة روسيا والصين. في حالة مماثلة، لن يقاوم أحد النزعة إلى تبني خطط مكافحة الإرهاب أو احتواء الدول الفاسدة باعتبارها على رأس أولويات الأمن القومي، مما يجعل الولايات المتحدة أكثر عرضة لتهديدات روسيا والصين.لقد اتّضح في أوساط السياسة الخارجية الأميركية أن الولايات المتحدة لم تعد تستطيع التحرك وحدها في كل مكان، إذا افترضنا أنها كانت قادرة على ذلك يوماً. تبدو التهديدات متشعبة جداً والموارد شحيحة. لا بد من اتخاذ قرارات صعبة حول الأولويات طبعاً، لكن لا تستطيع الولايات المتحدة أن تنافس الصين وروسيا تزامناً مع تجاهل تهديدات خطيرة أخرى، لا سيما تلك التي تهمّ الرأي العام أكثر من مسار القوى العظمى. من المتوقع أن يتعلق أبرز تحد في السياسة الخارجية الأميركية إذاً بإقامة توازن بين هذه الأولويات الكبرى بطريقة مدروسة ومستدامة.* ريتشارد فونتين * «فورين أفيرز»