نحو تعليم ديني متصالح مع العالم (4)
![د. عبدالحميد الأنصاري](https://storage.googleapis.com/jarida-cdn/images/1555928789945225900/1555928807000/1280x960.jpg)
لكن هذا المفهوم الإنساني الراقي للجهاد تعرض للتشويه والانحراف بفعل الصيرورة التاريخية، وتقلبات السياسة والنوازع البشرية، ومصالح دولة الخلافة الإسلامية، ذات النزعة التوسعية، وتأثر جمهور الفقهاء في القرن الثاني الهجري وما تلاه، بالبيئة المجتمعية، والواقع المعيش، وبمنطق الدولة العظمى المنتصرة (دولة الخلافة) والفقهاء، مهما اجتهدوا، هم في النهاية، أبناء بيئتهم، فقسموا العالم إلى: دار إسلام، ودار حرب، ودار عهد، وتمت شرعنة ما سمي "جهاد الطلب" أو "حرب الابتداء"، أي الهجوم على الآخرين حتى لو لم يعتدوا، انطلاقاً من قاعدة فقهية سياسية ابتدعوها، حكمت أفق العلاقات الدولية في الماضي، هي أن "الأصل في العلاقات الدولية بين المسلمين وغيرهم" هي (الحرب) لا (السلام) وأن (السلم) استثناء لا يصار إليه إلا بسبب طارئ، وتحقيقاً لمصلحة إسلامية عليا. الجهاد في العصر الحديث: وامتد هذا الإرث المشوه لمفهوم الجهاد إلى العصر الحديث، عبر المناهج التعليمية، والمنابر الدينية والإعلامية، والفتاوى، والمؤلفات حول الجهاد، والذي يعنيني هنا، المناهج الدراسية التي تلقن الطالب مفهوماً عسكرياً للجهاد، تجعله (فرض عين) على المسلم الاستنفار، دفاعاً عن أي دولة إسلامية معتدى عليها، وإلا أثم بالقعود! ما شأن الناشئة بالقتال؟ لماذا نحرضهم على القتال دفاعاً عن الدول الأخرى، دون احترام سيادتها على أرضها؟ هل يخالف النظام، ويذهب متسللا ويقع في المحظور؟! كل هذا غير مجد في عصرنا، كان مناسباً في أزمان الخلافة الإسلامية، كانت دولة المسلمين واحدة وخليفتهم واحدا، لكن ذلك عهد مضى، ونحن اليوم في عصر الدولة الوطنية، حيث استقلت الدول، وانضمت لعضوية الأمم المتحدة، والتزمت بمواثيق واتفاقيات دولية، وأصبحت لكل دولة حدودها السيادية، وسلطتها المستقلة، فكان الأجدى تعليم الناشئة أن طلبهم للعلم هو جهاد في سبيل الله، وكذلك الطبيب في عيادته، والمهندس في مكتبه، والفلاح في حقله، والعامل في مصنعه، والعالم في مختبره، وكل جهد مثمر أو علم نافع، ابتُغي به وجه الله، هو جهاد.لا شأن للناشئة والأفراد المدنيين بالحرب والقتال، هذا عمل العسكريين ومن في حكمهم من الشباب المجندين للخدمة العسكرية، المؤهلين للدفاع عن الوطن.أخيراً:علينا أن نقرر بحسم في تدريس الناشئة أن جهادهم، يكون في التفاني في استفراغ طاقاتهم في ميادين البناء والتنمية والاكتشاف والإبداع والاختراع، وقضايا الحرية والعدل ومكافحة الفساد، كما تفعل ناشئة العالم. لكن أكبر وأخطر تشويه لمفهوم الجهاد، تم على أيدي الجماعات المسلحة التي ادعت الجهاد: "القاعدة"، "داعش"، "بوكو حرام"، "طالبان"، "النصرة". وللحديث بقية.* كاتب قطري