في استحقاق شهد منافسة غير مسبوقة، أدلى التونسيون، أمس، بأصواتهم لاختيار رئيسهم السادس في تاريخ الجمهورية، والثاني منذ ثورة 2011، من بين 26 مرشحاً، أبرزهم رئيس الحكومة الليبرالي يوسف الشاهد ورجل الأعمال وقطب الإعلام الموقوف بتُهم تبييض أموال نبيل القروي، إضافةً إلى المرشّح التاريخي لحركة "النهضة" الإسلاميّة عبدالفتّاح مورو، ووزير الدّفاع المستقلّ عبدالكريم الزبيدي، الذي انسحب المرشّحان محسن مرزوق وسليم الرياحي لمصلحته.وفتحت مراكز الاقتراع من العاصمة المطلة على البحر المتوسط إلى غابات أشجار البلوط في الشمال الغربي وبلدات التعدين في الداخل وقرى المنطقة الصحراوية جنوباً، أمام أكثر من سبعة ملايين ناخب عند الساعة الثامنة بالتوقيت المحلي، قبل أن تغلق أبوبها في السادسة في كلّ الولايات، باستثناء بعض اللجان على الحدود الغربيّة بالقصرين وقفصة والكاف وسيدي بوزيد، فتحت متأخرة ساعتين (10ص) وأغلقت قبل موعدها بساعتين (4م) لدواع أمنيّة ولوجستية.
وخصصت الهيئة العليا للانتخابات أكثر من 4500 مركز اقتراع في جميع أنحاء تونس، بينما دفعت السلطات بأكثر من 100 ألف عنصر أمني وعسكري لتأمينها.وقبل أن تفتح أبوابها، اصطف عشرات الناخبين، أغلبيتهم من كبار السن والكهول، خارج مراكز الاقتراع، للتصويت في الدورة الأولى من ثاني انتخابات رئاسية ديمقراطية تشهدها تونس، والرابعة منذ بدء الانتقال السياسي بعد الثورة، بما في ذلك انتخابات المجلس التأسيسي عام 2011 والرئاسية والتشريعية في 2014 والبلدية في 2018. ومع إغلاق مراكز الاقتراع وبدء عمليّات فرز الأصوات بداخلها، نشرت منظّمات غير حكوميّة ومراكز سبر آراء توقّعاتها الأوّلية، على أن تُقدّم هيئة الانتخابات النتائج الأوّلية غداً الثلاثاء عن هوية الرئيس، الذي تنحصر صلاحياته في الأمن والدفاع والسياسات الخارجية فقط، أو اسمي الفائزين بأعلى الأصوات تمهيداً لخوضهما جولة الإعادة الحاسمة المقررة بحلول 13 أكتوبر.وقبل الدخول في مرحلة الطعون والتقاضي، التي تتواصل إلى يوم 21 أكتوبر وهو تاريخ التصريح بالنتائج النهائية بالنسبة إلى الدورة الأولى، تشهد تونس انتخابات تشريعيّة في السادس من أكتوبر المقبل، وبالتالي ستتأثر النتائج حتماً بها.
نسبة الإقبال
وفي أول مؤتمر صحافي له، أكد رئيس هيئة الانتخابات نبيل بفون فتح مكاتب الاقتراع بجميع الولايات، باستثناء بعض المناطق ذات التضاريس الوعرة والعسكرية، مشيراً إلى إقبال ضعيف مع بداية عملية التصويت، قبل ارتفاعه تدريجياً وبلوغه %7.3 في الساعات الأولى ثم إلى %16 في منتصف النهار، مقابل %12 في التوقيت ذاته بالدورة الأولى من انتخابات 2014 قبل أن تصل إلى أكثر من %60 في نهاية اليوم.وعلى غرار الشاهد، أدلى الرئيس المؤقت محمد الناصر بصوته في سيدي بوسعيد، مؤكداً أن تونس دولة مدنية تقوم على المواطنة وإرادة الشعب وعلوية القانون مما يجعل الانتخاب حقاً وواجباً.ودعا الناصر التونسيين للتوجه بكثافة لاختيار من يرونه جديراً بثقتهم، مشدداً على أن ارتفاع نسبة التصويت سيمثل تعزيزاً للوحدة ودعماً للثقة في المستقبل، وسيؤكد مضي تونس قدما نحو المزيد من ترسيخ مسارها الديمقراطي.بدوره، طالب رئيس حركة النهضة راشد الغنوشي "التونسيين بالفخر والاعتزاز بما حققته ثورتهم وأن يترحموا على شهدائها، الذين مكنوهم من بلوغ هذا اليوم، ويحافظوا على هذه الحرية"، داعياً إلى "اختيار الأقدر والأكفأ والأنظف والأكثر أخلاقاً".وأشار إلى أن "اليوم هو عز تونس وحريتها وتاريخ تخرجها بشهادة ديمقراطية لا مثيل لها في أي بلد عربي آخر"، لافتاً إلى أنها "تخطو خطوات هامة إلى الإمام".وتبدو الانتخابات في مهد الربيع العربي مفتوحةً على كلّ الاحتمالات، وهو ما زاد ضبابيّة المشهد بين ناخبين لم يحسم جزء كبير منهم قراره، ومراقبين اختلفت توقّعاتهم، علماً أنّ القانون يحظر نشر نتائج عمليّات سبر الآراء خلال الفترة الانتخابيّة.واتّسمت الانتخابات في تونس بعد الثورة بالاختلاف في توجّهات التصويت، فقد فاز بها الإسلاميّون، الذين حملوا شعار الدّفاع عن مكاسب ثورة 2011، قبل أن يتغيّر المشهد وتظهر ثنائيّة قطبيّة بين داعميهم والمناهضين لهم في انتخابات 2014، التي فاز بها حزب "نداء تونس" العلماني.وطرح الصراع الانتخابي في 2019 معادلة جديدة تقوم على معطى جديد هو ظهور مرشّحين مناهضين للنظام الحالي، ما أفرز وجوهاً جديدة استفادت من التجاذبات السياسيّة.ولم تتمكّن تونس منذ الثورة من تحقيق نقلة اقتصاديّة تُوازي ما تحقّق سياسياً، فملفّ الأزمات الاقتصاديّة لا يزال مشكلة أمام الحكومات المتعاقبة، وبخاصّة في ما يتعلّق بنسبة التضخّم والبطالة المتواصلة التي دفعت شباباً كثيرين إلى كره السياسة والنفور منها.وبلغ تأزُّم الوضع الاقتصادي ذروته في حكومة الشاهد الأطول بقاءً مقارنة بسابقاتها، ما دفع التونسيّين إلى الاحتجاج بشكل متواصل طيلة السنوات الأخيرة، مطالبين بمراجعة السياسات الاقتصاديّة وتحسين القدرة الشرائيّة التي تدهورت. في الوقت نفسه، لوحظ تحسّن في الوضع الأمني.وفي ظل اشتداد التنافس بين المرشّحين، خصوصاً من العائلة السياسيّة الوسطيّة والليبراليّة، أدّى الفراغ، الذي تركته السلطة في مسألة معالجة الأزمات الاجتماعيّة، إلى ظهور مَن يطرح البديل والحلول ويعتمد في ذلك على الاقتراب أكثر من الطبقات الفقيرة.ومن خلال سَعيه إلى توزيع إعانات وزيارته المناطق الداخليّة، بنى المرشّح ورجل الإعلام ومؤسّس قناة "نسمة" نبيل القروي مكانةً لدى هذه الفئة، سرعان ما تدعّمت وكوّنت له قاعدة انتخابيّة لافتة، قبل أن يقرّر القضاء توقيفه بتُهم تتعلّق بتبييض أموال وتهرّب ضريبي، بشكوى رفعتها ضدّه منظّمة "أنا يقظ" غير الحكوميّة في 2017.وفاة أرملة السبسي
توفيت أمس شدلية أرملة الرئيس التونسي الباجي قائد السبسي عن عمر ناهز 83 عاماً في المستشفى العسكري بالعاصمة إثر أزمة صحية ألمت بها منذ أمس الأول.وكتب نجل الراحلة حافظ السبسي، على صفحته الرسمية في موقع فيسبوك: "انتقلت إلى جوار ربها المغفور لها بإذن الله والدتي"، مضيفاً: "الله يرحمكم، كما وعدت أبي سابقاً أجدد وعدي يا أمي وأنت غادرت الحياة بعدما تكلمت معي مطولاً البارحة ليلاً وأنا بالخارج منذ مدة للضرورة، لن أترك تونس العزيزة للخونة والغدارة... كلفني ما كلفني حتى لو كانت حياتي ثمن ذلك". وفي تصريح نادر لها لمجلة "ليديرز" (الخاصة) في 2014، قالت شدلية، المرأة التي توصف بالأنيقة والكتومة، إنها كانت "تتناقش مع الباجي في كل شيء، وكان يطلب رأيها". وللسبسي، الذي توفي يوم 25 يوليو عن 92 عاماً، ابنتان وابنان بينهم حافظ، الذي تولى إدارة حزب "نداء تونس" ودخل في صراعات سياسية محتدمة مع رئيس الحكومة والمرشح للرئاسة يوسف الشاهد.