التنكّر للمبادئ والقيم
المثقف العربي، بصفة عامة، يعيش أزمة التناقض، بل إن النخب السياسية والثقافية أكثر تجسيداً لأزمة التناقض بأبعادها المختلفة، ولعل الوضع المتناقض والهزيل الذي يمثّله المثقف العربي يعتبر أحد العوامل الأساسية في الحالة العامة التي وصل إليها وضع التردي العام في العالم العربي على الصعد كافة.فلئن كانت الأنظمة تتحمل الوزر الأكبر من حالة التردي العام الذي بلغته أوضاع دولنا العربية، بسبب غياب مشروع الوطن لدى معظم الأنظمة، وهو ما أوجد هوّة سحيقة بين هذه الأنظمة وشعوبها، لضيق أفق معظم الأنظمة العربية، وسعيها الحثيث لتحقيق مصالحها الخاصة على حساب الوطن، فضيّقت مساحة الحريات فيها إن لم تصادَر بالكامل، وأجهضت محاولات المشاركة السياسية وتحقيق نظام ديمقراطي حُر فيها، وانحازت هذه الأنظمة للرأي الواحد، ولَم تفسح المجال للرأي الآخر، ولَم ترعَ سياسة التنوع والاختلاف، بل على العكس، إذ قضت عليها ومنعت هذه الثقافة المجتمعية المهمة، وقبل ذلك وبعده، فقد قوّضت كل المشاريع التنموية الوطنية بسياسات وممارسات عكسية تكرّس الفساد وترعى بؤره، وهي الحال العامة لمعظم الأنظمة العربية، إلا أن التناقض المريب والتخاذل البيّن، اللذين يهيمنان على المثقف العربي والنخب السياسية والثقافية تحديداً، كانا عاملين جوهريين فيما وصلت إليه حال الدول العربية ووضعها.فالمثقف العربي بارع في التنظير بشأن الدولة وبنائها المؤسسي، وفي أطروحات الفكر الديمقراطي وثقافة الاختلاف، وفي المثل الوطنية والقومية، وفي تكوين الوعي الشعبي وبناء المعارضة الطموحة، وفي أدبيات تكريس الحريات ودور المجتمع المدني والمنظومات المشابهة، وإلى آخر أدبيات الليبرالية أو الإسلامية في تجسيد المشروع الوطني والقومي.
غير أن الحقيقة والطامة الكبرى هي في الاتجاه العكسي لذلك كله، في الممارسة لدى المثقف العربي والنخب السياسية والثقافية، إذ إنهم سرعان ما يرسبون في اختبارات الحياة الحقيقية والممارسة.فما إن يأتوا إلى السلطة أو يكونوا جزءاً منها حتى يكونوا نموذجاً لسياسات الانحياز الفكري أو الحزبي أو السلطوي، فيصادروا الحريات ويحاصروا النقد وحرية الكلمة، ويتفننوا في وأد المؤسسات وإفراغ العملية الديمقراطية، بل وفي التناحر الفكري الخاوي فيما بينهم، بما يورث صراعاً مريراً وفارغاً، فمنهم الشريك في ذلك، ومنهم المبرر والمنظّر لتعسف السلطة وطغيانها، ومنهم المثبّط والمسوّف للمشروع الوطني، ومنهم قنّاص الفرص الذي يثري ويتكسب ويغتنم كل ما هو ممكن لتحقيق مصالحه الضيقة، مالياً أو عائلياً أو اجتماعياً أو سياسياً أو غيرها، ومنهم الذي يكتفي بالتفرج والذهول ليتحول كالخُشب المسنّدة التي لا تسمن ولا تغني من جوع.فالمراجعات السريعة والخاطفة لوضع هؤلاء المثقفين وتلك النخب في عالمنا العربي تؤكد أن الاستقراء هو خير شاهد على أنهم من عوامل تراجع الأمة وتردّي أحوالها، ولا يتبقى إلا نَفَر قليل بجهود فردية تغلب عليهم الموازنة والتأني، ثم التأني الذي يكون في نهاية المطاف، ملتقى للتنفيس دون عمل يُذكر.وعلى الرغم من كل ذلك، فأنا أؤمن بأن دوام الحال من المحال، وأن التغيير لا محالة آت، فالأمة تزخر بمن يجدد آمالها ويحقق طموحاتها، وليس ذلك على الله ببعيد.