يهدف توسع الصين البحري واندفاعها التجاري في أوروبا إلى إعادة رسم حدود التجارة العالمية والنظام الأمني بشكل يلحق الضرر بدول الغرب الديمقراطية، ويتعين على أوروبا والولايات المتحدة الاستعداد لمواجهة هذا التحدي الجديد.

عادت الأوضاع الجيوسياسية نتيجة الإدراك المتنامي في واشنطن بأن استراتيجية التعامل مع الصين التي اتبعتها الولايات المتحدة منذ نهاية الحرب الباردة قد أخفقت. وتحديات الصين التي تستهدف الولايات المتحدة والغرب بصورة عامة منهجية وترمي إلى إعادة تحديد آفاق النظام التجاري العالمي الحالي، وبنية تحالفاتنا– وأخيراً وليس آخراً– اطار العمل القائم في القوانين والقيم التي سادت بشكل تاريخي في الغرب.

Ad

ومنذ أربعة عقود عندما جرى طرح تقديرات خاطئة حول تحقيق الديمقراطية في الصين مدفوعة بعمليات تصدير وانخراط بكين في النظام التجاري والأمني الأوسع أصبحت الولايات المتحدة الآن تواجه دولة منافسة تسعى الى جمع شريحة كبيرة من الدول من أجل مواجهة أميركا وحلفائها، وربما كانت واحدة من المفارقات أن المنافسة بين الولايات المتحدة والصين قد انطلقت الى ما هو أبعد من الأفق الهندي– الباسيفيكي وتوجهت نحو أوروبا وريملاند الأوراسية.

وطوال سنوات كثيرة عملت الصين على اتباع مشروع جيواستراتيجي يهدف الى اقامة سلسلة امداد بديلة عبر أوراسيا بأمل ضمان استقلال ذاتي قومي من خلال تأمين فضائها الاقتصادي في حين تحافظ في الوقت نفسه على قدرة وصول الى الأسواق الأميركية والأوروبية. ولعبة النهاية في استراتيجية بكين هي ما أدعوه أنا «التحول العالمي» في تدفقات التجارة الذي كان يعتمد حتى الآن على التفوق البحري الأميركي وعلى النقل عن طريق البر.

وكانت بكين تراهن على أنها اذا استطاعت أن تطور بنجاح، وأن تدافع بفعالية عن أوراسيا من خلال أنظمة تقليدية ونووية وسيبرانية وفضائية، مع احتفاظها في الوقت نفسه بقوة بحرية كافية لكبح القوات البحرية الأميركية في المحيطين الهندي والهادئ، فإنها سوف تكون في موقع يمكنها من تفادي خطر التجارة البحرية، وأن تغلق الممرات البحرية عند الضرورة.

الخطط الصينية

برزت عدة مؤشرات على نوايا بكين الاستراتيجية الرامية الى الهيمنة على أوروبا، ومنها، على سبيل المثال، التوسع السريع في حجم القوات البحرية لجيش التحرير الصيني وحصول تلك القوات على أصول جديدة وخاصة مجموعات حاملات الطائرات القتالية التي من المقدر لها أن تنطلق وتدخل نطاق التشغيل في عام 2035، وهذه المجموعة تعمل في الوقت الحالي في البحر الأبيض المتوسط وبحر البلطيق وتوجد خطط الآن لنشرها في المناطق القطبية الشمالية وهي الهدف من تطوير أسطول جديد من كاسحات الجليد النووية بما في ذلك زوارق الجيل التالي التي يزن الواحد منها 33 ألف طن وهو ما يجعلها السفن الأضخم من نوعها في العالم.

وتضع بكين نفسها اليوم في موقع التحدي ازاء سيادة الجيش الأميركي، كما أن التلاقي بين المصالح الصينية والروسية في أوروبا يشكل تهديداً يتجاوز التهديد الذي كان يمثله الاتحاد السوفياتي خلال الحرب الباردة، ثم إن جهود بكين الهادفة الى التأثير الاقتصادي والمالي على دول أوروبية معينة وضغوط موسكو على حلف شمال الأطلسي والاتحاد الأوروبي تشكل خطراً واضحاً يهدد أمن المجتمع الأطلسي برمته.

ومنذ نهاية الحرب العالمية الثانية سعت الولايات المتحدة الى ضمان نجاح الوصول الى الأراضي المحيطة بأوراسيا– بما في ذلك أوروبا والمغرب والشرق الأوسط– والمناطق الواقعة في المحيطين الهندي والهادئ على شكل جزء من استراتيجيتها الواسعة. وقد عملت القوات التي تم نشرها في أوروبا وآسيا على شكل جسر أساسي بين الحاجة الى مواجهة القوة البرية الكاسحة للاتحاد السوفياتي وبين القوة البحرية الفاعلة للولايات المتحدة في ذلك الجزء من العالم. وقد أسهمت قدرة وصول الولايات المتحدة الى مناطق ريملاند الأوراسية في تعزيز مستوى الاستقرار بشكل غير مسبوق في شتى أنحاء العالم.

إحباط الاستراتيجية الصينية

ويسهم ضمان نجاح الوصول الى ريملاند والدفاع عنها في الوقت الراهن وخاصة بوابتها الأوروبية في تأدية دور حيوي ومهم من أجل منع الصين من تحقيق استراتيجيتها الرامية الى بناء سلسلة إمداد ذاتية الاستقلال في قلب أوروبا، ويتعين على أوروبا استيعاب ثقل الوضع بصورة تامة والتصرف على ضوئه من أجل إفشال الاستراتيجية الصينية.

وفي عدد من العواصم الأوروبية يوجد ما يمكن وصفه بقدر من التضارب حول مدى المنافسة الصينية– الأميركية وحول كيفية المضي قدماً في هذا الطريق ومواجهة الأخطار الأمنية والفرص الاقتصادية التي جلبتها الصين الى أوروبا، وهي جوانب لاتزال مستمرة حتى الآن، حيث لا يوجد سبب يدعو الى الافتراض بأن كل دول أوروبا سترى الخطر كما تراه الولايات المتحدة التي تعمل على تصعيد المنافسة مع الصين.

وسواء تم العمل من خلال القروض الصينية لشراء أسهم واستثمارات مثل مبادرة الحزام والطريق التي ركز عليها الرئيس الصيني شي جين بينغ وبكين 17+1 للتعاون مع اليونان ودول أوروبا الوسطى والشرقية، أو الاستحواذ المباشر على التقنية الأوروبية من قبل الشركات الصينية تظل أوروبا هدفاً أساسيا لبكين. ومن أجل فهم طبيعة التحدي يتعين على حلفاء الولايات المتحدة الأوروبيين أن يطوروا بصورة عاجلة وملحة رداً منسقاً على التغلغل الاقتصادي الذي تقوم به الصين، ومن ثم العمل بشكل وثيق ومترابط مع الولايات المتحدة من أجل تنسيق دفاعاتهم من خلال الاستثمار في قدرات عسكرية حقيقية وقابلة للاستخدام عند الضرورة.

مواجهة التحديات

وعلى الرغم من ذلك، تستمر مجموعة من الأحداث في طرح أسئلة حول قدرة أوروبا على الارتقاء الى مستوى التحديات، وقبل خمس سنوات منذ استولت روسيا على شبه جزيرة القرم واندلاع الحرب مع أوكرانيا وانعقاد عدة مؤتمرات قمة لحلف شمال الأطلسي التزمت فيها الدول الأعضاء في الحلف بإنفاق 2 في المئة من الناتج المحلي الاجمالي على الدفاع، فإن عدداً من الدول الحليفة لذلك التحالف يستمر في الكفاح من أجل تقديم إرادة سياسية كافية لإعادة بناء قدراته الدفاعية.

وعلى القدر نفسه من الأهمية، تستمر الضغوط السياسية الداخلية في تقسيم وتجزئة أوروبا، ويثير ذلك التمزق في الاتحاد الأوروبي أسئلة خطيرة حول قدرته على تجاوز العاصفة: كما أن فكرة «أوروبا المتعددة السرعات» تحظى بتأييد في بروكسل وتنقسم القارة بازدياد الى ما يمكن وصفه بـ»غرب ما بعد العصري» و»شرق تقليدي بقدر أكبر».

أخيراً وليس آخراً، توسعت خلافات جديدة في الرأي بين دول الأطلسي حول علاقاتها التي سعت الصين وروسيا الى تعميقها، وجعلت من الصعب تحقيق الإجماع الضروري لمواجهة الإمبريالية الصينية.

ويتعين على الولايات المتحدة أن تستمر في الانخراط بصورة تامة في أوروبا والعمل من خلال حلف شمال الأطلسي، وبشكل ثنائي، من أجل إبقاء الهدف الاستراتيجي الأكبر المتمثل بمواجهة اندفاع الصين داخل أوروبا على جدول أعمال دول الأطلسي. كما يتعين أن يوفر توسع الصين الاقتصادي والعسكري والسياسي في شتى أنحاء العالم الأساس من أجل تقييم مشترك من جانب دول حلف شمال الأطلسي للخطر وبشكل أكثر من أي وقت مضى منذ نهاية الحرب الباردة لكيفية استجابة أوروبا في العقد المقبل لحملة الصين الإمبريالية.

● أندرو ميشتا – ذي أميركان إنترست