ذاكرة الصورة والمكان والرائحة والأشخاص والشوارع والشجر، كلها أشكال من الذاكرة التي يختزلها البعض في صورة يحملها في حقيبته كلما ارتحل ويضعها في أقرب مكان من نومه أو جلوسه أو غرف المعيشة، كانت هي تملأ غرفة معيشتها بالصور، نبشت كل الزوايا المتربة والصناديق المغلقة لسنين لتبحث عن صورة لأم أو أخ أو أب أو صديق رحل، سعدت عندما صفّتها كلها على ذاك الجدار الواسع في غرفة المعيشة اليومية، ووسط ذاك المنزل الذي بني طوبة طوبة بكثير من المحبة، وأنارته هي بقلبها الواسع كالبحر الذي تشتاقه، والأفق البعيد الذي تحبه ساعة المغيب. بعدها صارت تطلب من الأولاد والبنات صورا لهم أو لهن، وإن رفض أحدهم تقم هي بالتقصي والبحث حتى تحصل على صورة جماعية، تأخذها لذاك المصور في محله القديم، وما إن تقترب حتى يردد "صورة من هذه المرة تريدينني أن أكبرها؟"، ويوضح أن مثل هذا لا يعطي الوضوح المطلوب للصورة، تبتسم هي متمتمة بصوت منخفض، هم في قلبي ولكني لا أطيق العيش إلا معهم.
كثرة الصور، كبار وشيوخ كثير من الرجال ببدل أنيقة عندما كان أهل الخليج يقضون صيفهم في مصر ماضين فوق نيلها مستمتعين بكثير من الجمال الذي شوهه الزحف حتى زحفت العشوائيات والتوك توك على الشوارع الواسعة، وآخرون يذهبون إلى لبنان، إلى الجبل حيث عاليه وبحمدون وحمانه، يجلسون في حضن الغطيطة وينعمون بصيف منعش دون مكيفات، هناك خلع الكثيرون أثوابهم التقليدية، ومضوا بين الجموع ببدل أنيقة دون "الفشخرة" التي تسود الكثير من الشباب الآن بأسماء الشركات والمنتجين والمصممين. أما النساء فلم يكنّ ملتحفات السواد بل لبسن الفساتين الأنيقة والقصيرة، الأمهات وبناتهن كلهن منتعشات مقلدات لنساء مصر ولبنان قبل أن يزحف السواد إلى تلك المدن المستنيرة. تضع هي تلك الصور ثم يأتي الأولاد ليرفعوها من الحائط خوفاً من أعين المتطفلين الذين يزورونها، والذين يجدون فيها مادة خصبة لنميمة صباحيات الشاي والقهوة، لا تكترث هي فقد سبقت زمنها بكثير، تتحدث عن الحب بحرية أمام بنات العائلة الصغيرات، توشوش لهن "الحب هو أجمل ما في الحياة"، يضحكن هنّ لأنها الوحيدة بين نساء ذاك الجيل التي تتحدث عن الحب "المحرم" على نساء الخليج والمحلل لرجالها! عندما يخلو المكان تتأمل هي في كل أولئك الذين رحلوا، تحتسي شاي الصباح معهم، تحدثهم بقلبها أو توشوشهم "اشكثر ولهانة عليكم"، وأهل الخليج يستخدمون الوله أكثر من الشوق، وكأنهم يعرفون كم هو بمذاق تمرهم، وعندما تسقط الدمعة تتحول إلى صور الأطفال والشباب والشابات، تفرح بهم وربما تسلي نفسها بتلك الوجوه الطرية المشرعة على الكون. تأخذهم عندما يحضرون في حكاوي الماضي، تعلمهم كيف كانت الحياة بسيطة، ولكنها راقية جدا، وكيف كانت أفلام الأبيض والأسود القادمة من مصر، ككل زوايا حياة أهل الخليج، وسيلة ليس للمتعة الروائية فقط، بل البصرية أيضا. تعلم هم، أي أهل الخليج، الكثير من أهل مصر وبقيت صورهم في المقاهي المصرية وعند شواطئ المعمورة وعلى ضفاف بورسعيد مخزنة في صور تخاف هي عليها من أن تبهت فوق الحيطان، فتصفّها في ألبوم أنيق أحضرته من بيروت في إحدى الرحلات الصيفية. للصور رائحة أو هي ما تبقى عندها من ذاكرة المكان، تأتيها رائحة زهر الليمون المنعشة وزهرة الغاردينيا التي لم يكن يعرفها أهلنا، حيث تتزين النسوة بالياسمين والمشموم، كانت هي تضع الياسمين و"الرازجي" في وعاء من البلور وتنثر عليه بعض نقاط من الماء لتنتشر رائحته في كل الغرفة، فتعيد الذاكرة بالصورة والرائحة واللحظة المخزنة، والتي قبضت هي عليها، وكأنها أثمن ما ورثته من كل ذاك الزمان والأحبة، صورها هي الباقية على رفوف الذاكرة، أو هي من يحرك كل تلك الأوقات فتستيقط من الحيطان لتشكل حياة جديدة. * ينشر بالتزامن مع "الشروق" المصرية.
مقالات
نور الذاكرة
23-09-2019