هل يوجد شيء مثل قدسية مفرطة؟ على أي حال، حتى كلمة مقدسة تشير إلى إظهار مفرط للولاء، وقد يخفي الحماس للتقديس دوافع أكثر خُبثا، وقد يؤدي تحقيقه إلى نتائج عكسية للغاية، ونذكر على سبيل المثال، تقديس العقود، خاصة تلك المتعلقة بالقطاع العام.وترتكز قدسية العقد على فكرة أنه "بمجرد دخول الأطراف في العقد كما يجب، يتعين عليهم الوفاء بالتزاماتهم بموجب هذا العقد، "وإذا أعطيت عهدا، فيجب عليك الوفاء به، لأنه كلما حافظ الشخص على عهده كانت أخلاقه حسنة". وانتهاك هذا المبدأ هو خطيئة تجاه الآخرين، إن لم يكن تجاه الله.
ويقدم الاقتصاد مبررات قوية لهذا الكلام، إذ يبرم الناس اتفاقيات تتضمن وقتا: أنت تفعل شيئا من أجلي الآن، وأنا أفعل شيئا لك لاحقا، والمشكلة هي أن مثل هذه الاتفاقيات ليست ذاتية التنفيذ: إذ بمجرد أن تفعل شيئا من أجلي، فأنا أفضل حالا إن لم أدفع لك مقابل خدمتك، أو إن لم أعد الأموال التي أقرضتها لي، ولهذا السبب اختُرعت الضمانات: إذا لم أسدد الأموال التي أقرضتها لي، يمكنك الاستحواذ على شيء تفوق قيمته قيمة القرض.وتحتاج هذه الاتفاقيات إلى إنفاذ طرف ثالث، عادة من قبل محكمة أو هيئة تحكيم، وكلما أمكن ضمان تنفيذ هذا العقد، زاد عدد الأشخاص الذين يرغبون في إبرام الاتفاقيات، وقد يكون لتقديس العقود عن طريق رفعها إلى مستوى أخلاقي أعلى، مكاسب اجتماعية.وتصبح الأمور أكثر تعقيدا شيئا ما عندما لا يكون أطراف العقد من الأفراد، بل من الأشخاص الاعتباريين مثل الشركات، أو المؤسسات، ويجب أن تحل هذه الكيانات ما يسميه الاقتصاديون مشكلة الوكيل الرئيس: إذ قد يأخذ الشخص الذي يوقع نيابة عن الشركة بعين الاعتبار مصالح خاصة به، وليس مصالح الشركة. لذلك يجب أن يؤذن لهذا الشخص بالقيام بذلك نيابة عن المنظمة، وقد يحتاج إذنا مسبقا من مجلس الإدارة، أو المساهمين. وغالبا ما تتحقق المحاكم مما إذا كان بإمكان الموقّع "إبرام العقد كما يجب".وتصبح الأمور أكثر تعقيدا أيضا عندما يكون الشخص الاعتباري حكومة يفترض بها أن تتصرف نيابة عن "الشعب". ولكن الناس كُثر، وقد يستفيد كل شخص من الإنفاق العام، الذي يمول في الغالب عن طريق الضرائب التي يؤديها الجميع، ويخلق هذا ما يسمى مأساة المشاعات التي تؤدي إلى زيادة الإنفاق.وفضلا عن ذلك، مع أن الحكومات تنتخب لفترة معينة، عادة ما تتراوح من 4 إلى 5 سنوات، إلا أنها يمكن أن تبرم عقودا تمتد إلى أبعد من ذلك بكثير، فعلى سبيل المثال، قبل الانتخابات، يمكن لحكومة ما أن تقترض من مستقبل قد لا تكون فيه في السلطة لمساءلتها.وهذا هو السبب في كون الانضباط المالي هو أحد أصعب إنجازات الحضارة وأبرزها، ولتحقيق هذا الانضباط، غالبا ما تميل الديمقراطيات إلى فرض قيود على الدين العام، وتتطلب موافقة تشريعية من أجل التصريح بالديون الحكومية وغيرها من العقود. وهذا يثير مسألة ما إذا كان ينبغي اعتبار العقود التي تنتهك هذه القواعد مقدسة، أو أنه ينبغي التبرؤ منها بسبب أصلها البذيء، ويجري الآن التقاضي بشأن هذه المسألة في قضية تخلف بورتوريكو عن سداد ديونها في الآونة الأخيرة، لأن حكومة الجزيرة اقترضت ما يتجاوز حدودها القانونية.وغالبا ما تكون الموافقة التشريعية مرهقة، وهذا هو السبب في قيام العديد من الدول بإعفاء الشركات المملوكة للدولة من هذا الشرط، واثقة من أن هياكل حوكمة هذه الشركات- مجالس إداراتها واجتماعات المساهمين- ستعمل لمصلحة المنظمة، وستضع قيودا فعالة على الاقتراض غير المسؤول، ولكن الحكومات والسياسيين الفاسدين ورأسماليي المحسوبين غالبا ما يستخدمون هذه الكيانات كثغرات لتفادي قيود الدين العام.ولنفترض أنك شخص فاسد يريد كسب المال عن طريق المساعدة في بيع السلع، أو الخدمات إلى القطاع العام مقابل الحصول على عمولة، كما زعم، أن الإخوة غوبتا، على سبيل المثال، قاموا بذلك في جنوب إفريقيا، وإذا كان ولابد من دفع مقابل السلع، والخدمات من موارد الميزانية الحالية، فسيتعين عليها التنافس مع العديد من المطالبات الأخرى بشأن بالمال العام، لذلك، من الأفضل أن تتمكن من بيع الأشياء عن طريق الائتمان، بحيث تحصل على عمولتك الآن، والدولة تدفع لاحقا، ولكن القيود التشريعية على الديون يمكن أن تجعل ذلك صعبا، ومن الأفضل، إذا، التوقيع على عقد مع مؤسسة مملوكة للدولة لا تخضع لمثل هذه القيود، شريطة أن تتمكن من إقناع رؤسائها بارتكاب عمل جنائي (أو العكس).كيف ستحمي نفسك؟ أولا، يمكنك أن تجعل العقد سريا، مع اعتبار نشر تفاصيله تقصيرا، كما أن المتآمرين معك في مؤسسة الدولة سيرغبون بذلك أيضا. ثانيا، ستؤمن قرضك عن طريق تعهد المسؤولين الفاسدين بأصول لم يكونوا مخولين بالتعهد بها. ثالثا، يمكنك تضمين بند يجعل التشكيك في شرعية العقد تقصيرا أيضا، بحيث إذا قام كيان الدولة فيما بعد باتهامك، يمكنك فقط الاستعانة بالضمان.وبدلا من حماية مثل هذه العقود الفاسدة، يجب على المحاكم أن تتعامل مع العقود بحد ذاتها على أنها دليل على جريمة ما، وهذا من شأنه أن يجعل مثل هذه الترتيبات أكثر تكلفة، لأن الأطراف ستتحمل مخاطر العقود، ولكن كما قال ميتو غولاتي من جامعة ديوك، وأوغو بانيزا من معهد الدراسات العليا في جنيف، فإن هذا سيكون مكسبا اجتماعيا، لأنه سيحفز السوق على الحد من السلوك الذي يتطلب ذلك.وأود أن أشير إلى أن القضية هنا هي شرعية العقد نفسه لا شرعية النظام الحاكم، وهذا يميزها عن مسألة الديون البغيضة، التي تتعلق بشرعية الالتزامات التي يتحملها النظام البغيض.وتعد العقود بمثابة "قانون بين الطرفين"، وتحظى بحماية المحاكم وتقديسها، ولكن يمكن كتابتها من أجل انتهاك القانون، وحماية الجريمة نفسها من القانون، ولا يستحق مثل هذا التدنيس البركة القضائية التي يسعى إليها المدنسون، كما لا ينبغي أن يحصلوا عليها.* ريكاردو هوسمان* وزير التخطيط السابق لفنزويلا، وكبير الاقتصاديين السابق في بنك التنمية للبلدان الأميركية، وأستاذ بكلية هارفارد كينيدي، ومدير مختبر هارفارد للنمو.«بروجيكت سنديكيت، 2019» بالاتفاقمع «الجريدة»
مقالات
هل يجب تقديس العقود الفاسدة؟
23-09-2019