حين يضعف معقل الصناعة العالمي

نشر في 27-09-2019
آخر تحديث 27-09-2019 | 00:01
دونالد ترامب و شي جين بينغ
دونالد ترامب و شي جين بينغ
مع مرور كل فصل جديد من السنة، تُضعِف الحرب التجارية مع واشنطن النمو الصيني، ونتيجةً لذلك يرتفع معدل البطالة وتتوسع ظاهرة نقل مواقع الإنتاج باختصار تواجه الشركات وضعاً سيئاً!
الصين أكبر سوق جملة في العالم! 200 كيلومتر من الأروقة، 70 ألف بوتيك، بازار من البضاعة المصنوعة في الصين يمكن اعتباره ميزان حرارة «مصنع العالم»... لكن في نهاية هذا الصيف، تبدو الحرارة شبه شتوية! من الواضح أن الصين لا تبلي حسناً، فقد تراجع نموها الاقتصادي للمرة الأولى منذ 27 سنة، تحت عتبة 6.2% في عام 2019. إنه رقم تحلم به أوروبا، لكنه يعكس أداءً ضعيفاً في بكين، وفي نظر التجار في مدينة «ييوو»، في شرقي البلاد، يصعب تقبّل هذا الوضع، إذ تتذمر بائعة قائلة: «لم أعد أتعامل مع أي عميل أميركي، إنها سنة كارثية، أظن أنني خسرتُ نصف أرباحي الاعتيادية».

توضح الصحافية الاقتصادية فران وانغ من المجموعة الإعلامية «كايكسين»: «يتكل الاقتصاد الصيني بشدة على الصادرات، لقد أعطت الحرب التجارية مع الولايات المتحدة أثراً قوياً إذاً، لذا يجب أن يزيد ثقل الطلب الداخلي للتعويض عن النقص، إنه الحل الوحيد، وهذا ما تريد الحكومة فعله». أصبحت هذه الفكرة متداولة في نقاشات خبراء الاقتصاد الصيني، لكنّ القول أسهل من الفعل! تراجعت الصادرات الصينية بنسبة 1% في شهر يوليو، ولم يرتفع الاستهلاك في المقابل، وأمام هذا الوضع، يقول دونالد ترامب المعروف بتغريداته العدائية إن «الاقتصاد الصيني بدأ ينهار»!

لن يحصل أي انهيار فعلي، بل مجرّد هبوط سلس أصبحت عواقبه واضحة، صحيح أن مستوى البطالة حافظ رسمياً على نسبة مستقرة (نحو 5%)، لكن سوق العمل تدهور في الأشهر الأخيرة بوتيرة غير مسبوقة منذ الأزمة الكبرى في عام 2008، ففي الجنوب الصناعي، أوقفت عشرات آلاف المصانع نشاطاتها، وفق معطيات «نشرة العمل الصينية» (منظمة غير حكومية في هونغ كونغ تُحْصِي جميع الصراعات الاجتماعية في الصين). كذلك، تُخفّض التكتلات الصناعية الكبرى، التي تتكل بالكامل على الطلبات الخارجية، أعداد اليد العاملة لتقليص التكاليف. وبحسب إحصاءات «نشرة العمل الصينية» أيضاً، خسر مليونا عامل وظائفهم في عام 2018 نتيجة إقفال المصانع المرتبط بهذا التباطؤ. حتى أن الحرب التجارية القائمة قد تُكلّف الصين بين مليونين و3 ملايين وظيفة أخرى هذه السنة، وفي قطاع السيارات وحده، وهو من أكثر القطاعات تأثّراً بالوضع، تراجعت اليد العاملة بنسبة 5% منذ سنة وفق الإحصاءات الرسمية.

يوضح ممثّل المنظمة غير الحكومية: «منذ عشر سنوات، بدأت الصناعة الصينية تخسر قوتها بسبب ارتفاع الرواتب وتكاليف الإنتاج التي تُضعِف قدرة البلد التنافسية.

وفي هذا السياق، كانت الحرب التجارية مع الولايات المتحدة مدمّرة، وإذا لم تغلق المصانع أبوابها، تبدأ البحث عن حلول خارجية. كانت الشركة الصينية التابعة للمجموعة الأميركية «كزنتريكس وايرلس» آخر شركة أعلنت مغادرة الصين ونقل مواقع إنتاجها إلى الفلبين وتايوان وفيتنام هرباً من الضرائب الأميركية المفرطة. صرّح المسؤول المالي بن بوتولف لوكالة «فرانس برس»: «الوضع مزعج للغاية ويترافق مع كلفة عالية. احتجنا إلى ثلاثين سنة لتطوير سلاسل التوريد في الصين التي تتمتع ببنى تحتية تفتقر إليها بلدان أخرى حتى الآن»، لكن الحرب التجارية غيّرت الظروف القائمة بالكامل. بحلول نهاية السنة، قد تخضع الواردات الإجمالية من العملاق الآسيوي (بقيمة 540 مليار دولار تقريباً، بناءً على أرقام العام 2018) لضرائب فائقة. يضيف المسؤول الأميركي: «قد لا تعود الأوضاع إلى سابق عهدها مطلقاً في الصين».

وفق دراسة أجرتها غرفة التجارة الأميركية في الصين، غيّر ما يفوق الأربعون في المئة من الشركات الأميركية مواقع الإنتاج أو يفكر باتخاذ هذه الخطوة، وعمدت 50 شركة متعددة الجنسيات إلى تخفيض تكاليفها، على غرار «آبل» و»ديل» و»إتش بي».

قد يتم تصنيع جزء كبير من جهاز «آي فون» المقبل في الهند، وفي المُحصّلة، تفكر الشركة الأميركية العملاقة بتغيير 15 إلى 30% من مواقع إنتاجها. تتجه «ديل» إلى تايوان، و»إتش بي» إلى فيتنام وتايلند، أما مصانع النسيج التي تبدو هوامشها ضيقة بدرجة إضافية، فتفكر بالتوجه إلى بنغلادش وفيتنام في المقام الأول. منذ بداية السنة زادت الاستثمارات الأجنبية في فيتنام بشكلٍ قياسي وبلغت قيمتها نحو 11 مليار دولار، مما يعكس ارتفاعاً بنسبة 86.2% خلال سنة، وفق الأرقام التي جمعتها «مجلة الأوراق المالية الصينية».

تدابير غير كافية

قررت بكين دعم شركاتها وتحريك عجلة اقتصادها مجدداً، لكنّ التدابير التي اقترحتها غير فاعلة برأي أليسيا غارسيا هيريرو، خبيرة اقتصادية متخصصة بمنطقة آسيا والمحيط الهادئ في شركة «ناتيكسيس» في هونغ كونغ: «طلبت الحكومة من البنوك زيادة القروض للشركات، ومع ذلك لم تتوسع القروض المصرفية، مما يكشف أن البنوك الصينية الكبرى لا تقرض القطاع الخاص حتى الآن».

ولا تبرز أي منافع من التدابير الأخرى، منها تخفيض الضرائب على المداخيل المتدنية لزيادة القوة الشرائية. تشكّل الشركات الصغيرة والمتوسطة 97% من الشركات الصينية، و60% من الناتج المحلي الإجمالي، و80% من اليد العاملة في المدن، وقد استفادت بدورها من إعفاءات ضريبية، لكن تبقى هذه الخطوات غير كافية برأي هيريرو.

ما لم تجد الحكومة الصينية حلولاً أكثر فاعلية، فستكرر خطة التحفيز التي أطلقتها في عام 2008، من خلال ضخ السيولة في بنى تحتية كبرى: 300 مليار دولار في يونيو، تُضاف إلى 80 مليار في بداية السنة لدعم الاستثمارات عبر برنامج الأعمال الرئيسة في النقل بالسكك الحديدية، ومحطات توليد الكهرباء، والمطارات، لكن تعبّر هيريرو عن قلقها من غياب أي مشاريع جديدة ومثيرة للاهتمام يمكن الاستثمار فيها، وانعدام الثقة بالمستقبل. حتى أن هذا الوضع يجازف بزيادة مديونية الجهات العامة والخاصة برأيها، إذ تبلغ أعباء الدين في الصين 250% من الناتج المحلي الإجمالي، بعدما اقتصرت على 150% منذ 10 سنوات!

تبقى هذه المساعدات المالية والتدابير المحدودة غير كافية لإيقاظ التنين الصيني، ويحتدم الجدل في أعلى مراتب الدولة بين مؤيدي تكثيف ضخ السيولة والداعين إلى تحرير الاقتصاد. قد يصدر القرار النهائي خلال الجلسة المكتملة المقبلة للحزب في أكتوبر. تجرأ تشانغ وي يينغ، خبير اقتصادي ليبرالي معروف وأستاذ جامعي في بكين، على التشكيك بالنموذج الصيني قائلاً: «يخطئ من يظن أن القطاع العام القوي والنموذج الاقتصادي السلطوي قادران على إنقاذ الصين من وضعها الصعب، بل إن توسّع نفوذ الدولة الصينية هو السبب الحقيقي وراء النزوات الأميركية».

أكد الرئيس شي جين بينغ من جهته احتمال أن «تواجه سفينة الاقتصاد الصيني الأمواج»، لكن تذكر المجموعة البحثية «سينو إنسايدر» أن تدهور الوضع الاقتصادي وارد جداً، وتُشكك بمصداقية الإحصاءات الوطنية، على غرار عدد كبير من الخبراء: «كلما اعترف الحزب الشيوعي الصيني بمعلومة، كان الواقع عموماً أسوأ بكثير»!

الرئيس شي جين بينغ أكد احتمال أن «تواجه سفينة الاقتصاد الصيني الأمواج»
back to top