إن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون مقتنع أن الآن هو الوقت الصحيح لإعادة تشكيل العلاقات مع روسيا، وعليه فقد جعل من أولوياته الدبلوماسية استعادة أجواء الثقة بين باريس وموسكو، وهناك ثلاثة أسباب قاهرة تكمن وراء هذه الخطوة:

أولاً، وقبل كل شيء، لقد تغير السياق الاستراتيجي العالمي بشكل دراماتيكي، فالصين في حالة صعود، في حين أصبحت الولايات المتحدة، التي على الرغم من أنها لا تزال القوة المهيمنة في العالم، تنأى بنفسها عن مسؤولياتها العالمية، وروسيا التي تعاني شيخوخة السكان وتناقص أعدادهم بالإضافة إلى أراضٍ غير مأهولة الى حد كبير هي فريسة طبيعية لطموحات الصين الطويلة المدى.

Ad

إن القادة الأوروبيين يجب ألا يراقبوا بدون أن يفعلوا شيئا تجاه روسيا التي تفتقر لأي بديل وهي تتحالف مع الصين، وعوضا عن ذلك يجب عليهم إقناع الروس بأن مستقبلهم مع أوروبا لا كشريك أصغر للصين في علاقة غير متوازنة بتاتا، وأن مصير روسيا يقع في الغرب لا في الشرق.

بالإضافة الى ذلك وعلى الرغم من أن روسيا ليست نداً للصين فإنها عادت كلاعب دولي كبير، والعديد من الصراعات الحالية من شرق أوروبا الى الشرق الأوسط لا يمكن التعامل معها بدون إشراك روسيا.

إن هذا يمثل بعض الانتصار للرئيس الروسي فلاديمير بوتين الذي تولى السلطة لأول مرة قبل 20 سنة تقريبا على أساس وعود باستعادة النفوذ الجيوسياسي للبلاد، ولقد أراد بوتين على وجه الخصوص أن تتعامل الولايات المتحدة الأميركية مع روسيا ليس كمجرد حالة تاريخية كما كانت الحال تحت حكم سلفه بوريس يلتسين فقط، بل كمحاور حقيقي. قد يكون من المستحيل استعادة عالم القطبين العائد لسنوات الحرب الباردة، ولكن على أقل تقدير ستضطر الولايات المتحدة الأميركية للإقرار بأهمية جيش روسي حديث وعملياتي يمكنه التدخل على صعيد الاتحاد السوفياتي السابق وغيره من البلدان.

أي بعبارة أخرى لقد عادت روسيا وأي محاولة أوروبية لإنكار ذلك أو بكل بساطة محاولة احتواء روسيا لا يمكن أن تكون أساسا مقنعا لعقيدة طويلة المدى ودبلوماسية واقعية.

والسبب الثاني لمبادرة فرنسا الدبلوماسية الجديدة تجاه روسيا هو ملء فراغ القيادة في أوروبا، فالمملكة المتحدة التي كانت مؤخرا الأكثر حزما في إدانة التصرفات الروسية قد وضعت نفسها وبكل بساطة خارج اللعبة، فبريطانيا المهووسة بالكوميديا السوداء المتعلقة ببريكست، والتي أدت إلى أسوأ أزمة سياسية شهدتها البلاد منذ الحرب العالمية الثانية، قد أصبحت الآن خارج المشهد كلاعب دبلوماسي كبير.

وفي الوقت نفسه ألمانيا القوة الأوروبية التي لديها العلاقات التاريخية والثقافية الأقرب مع روسيا هي الآن في نهاية حلقة سياسية، وإن التقليل من شأن المستشارة الألمانية أنجيلا ماركيل هو تصرف خطير وظالم، لكنها لم تعد تملك النفوذ أو الطاقة لقيادة أوروبا في تعاملاتها مع العالم الخارجي أو حشد الأوروبيين أنفسهم.

ومع عدم قدرة المملكة المتحدة وألمانيا حالياً على تأدية دور دبلوماسي كبير، وعدم استطاعة إيطاليا وإسبانيا وبولندا أن تؤدي أدوارا رئيسة فإن النتيجة بكل بساطة هي مجيء زمن فرنسا، وهذا يعود جزئيا لعدم وجود منافسة والى طاقة ورؤية رئيسها الشاب.

أخيرا فإن محاولة ماكرون إعادة تشكيل العلاقات مع روسيا هي في تناغم تام مع التقاليد الديغولية، وإن التوسط بين نظامين مختلفين والنظر إلى ما هو أبعد من الاستنساخ الحالي للبلدان الأخرى كان التوجه الطبيعي لشارل ديغول، فقد رأى الرئيس الأول للجمهورية الخامسة في فرنسا أن هناك خلف الاتحاد السوفياتي أو صين ماوتسي توتغ روسيا أبدية أو صيناً أبدية، وفي التعامل مع بلد آخر يجب ألا يصاب المرء بالشلل بسبب طبيعة نظامه.

إن إعادة إحياء ذلك التقليد يمكن أن يناسب أيضاً حسابات ماكرون المحلية، فمحاولته التواصل مع الكرملين تعني أن بإمكانه استرضاء القطاعات الاقتصادية التي كانت الأكثر تأثرا بالعقوبات الغربية على روسيا مع تحدي الأحزاب التي عادة ما تكون مؤيدة لروسيا من أحزاب أقصى اليمين وأقصى اليسار في فرنسا.

لكن تفسير جذور السياسة أو المنطق وراءها يختلف تماما عن تبرير القرار بشكل كامل، وإن حكومات وسط وشمال أوروبا على وجه الخصوص متشككه في مبادرة فرنسا الدبلوماسية الجديدة، فلماذا التقارب مع روسيا ولماذا الآن؟

إن انتمائي إلى فرنسا العلمانية يعني أن مثل هذا الإحسان المسيحي- العطاء قبل الحصول على أي شيء بالمقابل- يبدو إما ساذجاً أو ميكافيلياً، وبالإضافة إلى ذلك يبدو أنه يتناقض مع تركيز فرنسا على القيم ضمن سياق الاتحاد الأوروبي.

بالتأكيد إن منتقدي مبادرة ماكرون المتعلقة بروسيا يقولون إن الانقسام بين الدفاع عن المبادئ السياسية ضمن الاتحاد الأوروبي وممارسة الدبلوماسية خارجها يجب ألا يكون كبيرا لدرجة تعريض تماسك الاثنين للخطر.

هم يجادلون كذلك أن ماكرون يتصرف لوحده بدون أن يتشاور فعليا مع شركائه وحلفائه الأوروبيين، وهو بالكاد يستطيع أن يدّعي أنه يتحدث باسم أوروبا لو استمر بالعمل بهذه الطريقة، أي أن يتقدم لأعضاء الاتحاد الأوروبي بأعمال يعتبرها هو وكأنها حقيقة واقعة.

على الرغم من تفهمي لتلك الانتقادات (وأنا أتفق معهم في بعضها) فإنني أدعم جهود ماكرون، فسياسة الاحتواء الغربية الصارمة قد فشلت، وعليه ربما سياسة التواصل التي يمكن أن تكون مبرره بشرط ألا تتم ممارستها بشكل ساذج أو بازدراء كامل للمبادئ.

بالإضافة الى ذلك فإن ماكرون هو آخر شخص لديه أوهام غير حقيقية عن روسيا بوتين، فخلال الانتخابات الرئاسية الفرنسية سنة 2017 قادت روسيا حملة نشطة لمصلحة منافسته من أقصى اليمين مارين لوبان، وذلك من خلال التضليل المنهجي ونشر الأخبار الوهمية، كما أن ماكرون لا يريد أن يظهر بوتين وكأنه تجاوز جميع تناقضاته لأسباب ليس أقلها أن روسيا لا تزال تمارس تلك السلوكيات، والتي تسببت في تدهور علاقتها مع أوروبا في المقام الأول.

لقد اتخذت فرنسا الخطوة الأولى الجريئة لإعادة تشكيل العلاقات مع روسيا والكرة الآن في ملعب بوتين.

* دومنيك مويزي

* مستشار خاص في معهد مونتين في باريس.

«بروجيكت سنديكيت، 2019» بالاتفاق مع «لجريدة»