لعبة طويلة الأمد في العراق
بفضل الدعم الأميركي العلني والرسمي للحكومة العراقية المركزية، فضلاً عن تنظيم زيارات مدنية وعسكرية عالية المستوى، سيتذكر العراقيون أن بلدهم ليس تحت رحمة إيران وعملائها بالكامل، وكي تُحقق الولايات المتحدة النجاح فإن عليها أن تتعلم اللعبة التي تقوم بها طهران!
في الأسبوع الماضي، سقطت صواريخ على موقعٍ كان يُسمّى سابقاً «المنطقة الخضراء»، أي الحي المُحصّن في غرب بغداد حيث تقع السفارة الأميركية، إنه ثاني هجوم من هذا النوع منذ شهر مايو، حين انفجر صاروخ آخر بالقرب من منشأة أميركية ضخمة. اعتبرت إدارة ترامب حينها أن الاعتداءات من تخطيط الميليشيات الشيعية العراقية التي تربطها علاقات وثيقة بإيران، ولا يزال رأيها على حاله اليوم. لطالما دعت واشنطن الحكومة العراقية إلى قمع القوات العميلة لإيران وقطع علاقتها بطهران، ومن المتوقع أن تردّ على الهجوم الأخير عبر مضاعفة تلك الدعوات وتعزيز الضغوط على بغداد.هذه المقاربة ليست حكيمة بأي شكل، إذ تبدو الحكومة الراهنة في بغداد على وفاق مع واشنطن، لكنها لن تصمد إذا اعتبرت طهران عدوّتها، فآخر ما تريده هو أن تَعْلَق بين نيران البلدَين. في أفضل الأحوال، لن تنجح المحاولات الأميركية الرامية إلى إقصاء إيران من المشهد العام. وفي أسوأ الأحوال، قد تُضعِف واشنطن حكومة ودّية في بغداد وتُمهّد لنشوء أخرى أقل استعداداً للتعاون.منذ فترة غير طويلة، أصبح عملاء إيران في العراق شركاء للولايات المتحدة في معركتها ضد «داعش». نسّقت الطائرات والقوات الخاصة الأميركية عملياتها بطريقة غير مباشرة مع المقاتلين في الميليشيات، وشكّل الجيش العراقي قناة التواصل بين الطرفَين، ولهذا السبب، كان الأميركيون مستعدين للإغفال عن دعم هذه القوى نفسها للأجندة الإيرانية في سورية واليمن، بما يتعارض مع المصالح الأميركية في هذين البلدَين. لكن بعد احتواء تمدد «داعش» في العراق، انتهى ذلك التعاون غير المباشر وتريد الميليشيات المرتبطة بإيران أن تغادر القوات الأميركية المتبقية العراق.
اليوم، تنشط عشرات الميليشيات الشيعية المماثلة في العراق (بالإضافة إلى مجموعة صغيرة من الميليشيات السُّنية أيضاً). تتلقى هذه الجماعات تمويلاً كبيراً من الحكومة المركزية، لكنها لا تخضع لسيطرتها بالكامل. يدير عدد منها حلقات تهريب ويعرقل حركة المرور عبر إقامة حواجز تفتيش، وحتى لو لم تقع الاعتداءات الصاروخية، يبقى تأثيرها المتواصل عاملاً سلبياً.لكن حين سافرنا إلى العراق في وقتٍ سابق من هذا الشهر، أكد الخبراء والمسؤولون الذين قابلناهم (نعرف عدداً كبيراً منهم منذ سنوات) تراجع احتمال رضوخ الميليشيات قريباً نظراً إلى الوضع القائم. يتكل رئيس الحكومة، عادل عبدالمهدي، الذي يتولى منصبه منذ أكتوبر 2018، على الأحزاب السياسية الشيعية والأجنحة السياسية للميليشيات للحفاظ على أغلبية برلمانية. نتيجةً لذلك، لا يستطيع فرض الضغوط عليها، فهو أَمَر الميليشيات بالتخلي عن صفقاتها التجارية الفاسدة، لكن من دون جدوى. قيل لنا بشكلٍ متكرر أيضاً إن أي شخصية سياسية عراقية ليست مُحصّنة ضد التهديدات الإيرانية. لا يقدّر القادة في العراق أهمية ما يعتبرونه «محاضرات أميركية» حول مخاطر «الدويلات» الموالية لإيران داخل العراق، نظراً إلى تغيّر الخطاب الأميركي في مناسبات متكررة. تذمّر وزير بارز في الحكومة من تقلبات الأميركيين، كونهم ينسّقون عملياتهم مع قادة الميليشيات المرتبطة بإيران ضد «داعش» في سنة معينة، ثم يعتبرون تلك الميليشيات نفسها تهديداً مميتاً في السنة اللاحقة. وافقه الرأي مسؤول بارز آخر وصديق للولايات المتحدة، فاعتبر أن الحكومة العراقية، مع تحالفها البرلماني المتخبط، لا تستطيع أن تواكب التغيرات المفاجئة في المسار الأميركي.بما أن الولايات المتحدة وإيران توشكان الآن على خوض صراع حقيقي، فمن المنطقي أن يخشى القادة العراقيون تداعيات هذا الصراع عليهم. في منتصف سبتمبر، زاد منسوب التوتر بعد هجوم بطائرة بلا طيار على منشأتَي «أرامكو» النفطيتَين في المملكة العربية السعودية، كما توسّعت المخاوف من أن يصبح العراق ساحة معركة بالوكالة، فتُستعمَل الميليشيات العراقية لمهاجمة المصالح الأميركية في المواجهة القائمة بين الولايات المتحدة وإيران. سافر قاسم سليماني، اللواء المسؤول عن العمليات الخارجية في فيلق الحرس الثوري الإسلامي الإيراني، إلى بغداد بكل هدوء بعد أيام قليلة على هجوم «أرامكو». لم تكن زيارته مجرّد مصادفة طبعاً. لكن أخبرنا مسؤول على تواصل مع الميليشيات بأن هذه الأخيرة قد لا تردّ إذا أطلقت الولايات المتحدة ضربة محدودة على إيران.بنظر واشنطن، لا قيمة لهذه التطمينات من دون التزام الحكومة المركزية في بغداد بالسيطرة على الميليشيات وتقليص النفوذ الإيراني في العراق. قد تميل واشنطن إلى فرض معايير معينة بشأن التدابير الاقتصادية والعسكرية على بغداد، لكنّ هذه المقاربة لم تكن فاعلة سابقاً ومن المستبعد أن تنجح الآن. يريد معظم العراقيين الاستفادة من الخدمات الأساسية واسترجاع الاستقرار قبل كل شيء. هم يزدادون عداءً للطبقة السياسية الفاسدة، بما في ذلك قادة الميليشيات، لأنها تفشل في أداء أبسط مهام الحكم. يتعين على واشنطن أن تتجنب أي تحركات صاخبة قد تعيد توجيه ذلك الغضب نحو الولايات المتحدة.لم تنتهِ مهمة الولايات المتحدة في العراق بعد، إذ يجب أن تُدرّب القوات العراقية التي تحارب خلايا «داعش» المتبقية وتقدّم لها الدعم الاستخباري اللازم. حتى الآن، أيّدت الأغلبية في البرلمان العراقي هذا التدبير، لكن قد تتمكن إيران من شراء ولاء ما يكفي من النواب العراقيين كي تدعو الحكومة إلى انسحاب الأميركيين. وإذا فرضت واشنطن ضغوطاً مفرطة على بغداد، ربما تتحرك الميليشيات لإسقاط رئيس الحكومة عبدالمهدي. سيواجه العراق حينها فترة مطولة من الانشقاق السياسي، فتتخبط الحكومة وتعجز عن اتخاذ أي خطوة ضد الميليشيات. الأسوأ من ذلك هو أن الأحزاب الشيعية قد تتفق على رئيس حكومة جديد يعارض الولايات المتحدة بدرجة إضافية. لا يصبّ أيٌّ من هذه النتائج في مصلحة الولايات المتحدة في بلدٍ محوري بالنسبة إلى السياسة الأميركية في الشرق الأوسط.في الوقت الراهن، من الأفضل أن تدعم واشنطن الحكومة العراقية فيما تحاول حل اضطراباتها الداخلية التي تجعلها أكثر عرضة للاضطرابات الخارجية. طرحت بغداد مجموعة من التوجيهات حول ما يجب أن تفعله الحكومة والميليشيات في ظل توسّع الشرخ الإقليمي، فذكرت مثلاً أن أحداً لا يحق له أن يهاجم القوات الخارجية الموجودة في العراق بدعوةٍ من الحكومة العراقية (في إشارةٍ إلى الأميركيين طبعاً). أيّد عدد من كبار قادة الميليشيات المرتبطة بإيران هذا الاقتراح، لكن رفض أكثر القادة تطرفاً، على غرار القائد العسكري أبو مهدي المهندس، الانضمام إليهم. تستطيع الحكومة الآن أن تبدأ بعزل المتطرفين سياسياً، لن تحلّ هذه الخطوة جميع المشاكل، لكنها بداية إيجابية.طالما يريد العراقيون الاستفادة من التدريبات والمساعدات الأميركية في معركتهم ضد «داعش»، فإن على الولايات المتحدة أن تقدم لهم ما يحتاجون إليه، ولن تضمن أي حكومة مركزية ضعيفة الاستقرار في المنطقة، بل إنها ستعوق المعركة ضد بقايا «داعش» هناك. في غضون ذلك، يؤدي نفوذ إيران عن طريق الميليشيات وتدخلها المستمر في السياسة العراقية إلى إضعاف جهود السياسيين العراقيين الذين يحاولون تقوية الدولة. بفضل الدعم الأميركي العلني والرسمي للحكومة العراقية المركزية، فضلاً عن تنظيم زيارات مدنية وعسكرية عالية المستوى، سيتذكر العراقيون أن بلدهم ليس تحت رحمة إيران وعملائها بالكامل.تجيد إيران خوض هذه اللعبة الطويلة في العراق، وكي تُحقق الولايات المتحدة النجاح فإن عليها أن تتعلم هذه اللعبة بدورها!
نفوذ إيران يؤدي عن طريق الميليشيات وتدخلها المستمر في السياسة العراقية إلى إضعاف جهود السياسيين العراقيين
عادل عبدالمهدي يتكل على الأحزاب السياسية الشيعية والأجنحة السياسية للميليشيات للحفاظ على أغلبية برلمانية
عادل عبدالمهدي يتكل على الأحزاب السياسية الشيعية والأجنحة السياسية للميليشيات للحفاظ على أغلبية برلمانية