شعار «أميركا أولاً» يعني الانسحاب من الصراعات الخارجية!
يريد ترامب أن يثبت للناخبين أنه يعمل على إنهاء الحروب بدل إطلاقها، ولم يكن اختياره شعار «أميركا أولاً» مجرّد مصادفة، بل إن سياسة ضبط النفس هذه تُذكّرنا بكل وضوح بموقف الانعزاليين بين الحربَين العالميتَين: حارب هؤلاء بكل قوتهم لإبقاء البلد خارج الحرب العالمية الثانية.
إذا أردنا تذكّر أي عنصر من خطاب ترامب أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، فلن نتذكر إلا النقاط التي أغفل عن قولها، فرغم الهجوم الأخير على منشأتين نفطيتَين في المملكة العربية السعودية واتهام الحكومة الأميركية إيران بالضلوع فيه، لم يتكلم ترامب عن شن ضربات انتقامية، بل بقيت نبرة صوته خافتة وخَلَت من العبارات العدائية التي يُعرَف بها. مقارنةً بخطابات ترامب السابقة أمام الأمم المتحدة، بدا هذا الخطاب مدروساً على نحو غير مألوف وكان أسلوب إلقائه أقل حدة وصدامية.حتى أن أداء الرئيس الأميركي الهادئ على غير عادة أكسبه جولة خفيفة من التصفيق، وإن هذا الإنجاز ليس بسيطاً لأنه يحظى دوماً باستقبال عدائي في الأوساط الدبلوماسية، ومن الواضح أن المستمعين إليه شعروا بالارتياح، فقد كانوا يتوقعون ما هو أسوأ بكثير.ربما ارتبط صوت ترامب الرتيب وغياب عبارات التبجح بمصدر إلهاء آخر، فقد كان يمر بيوم سيئ فعلاً، إذ إنه قبل إلقاء خطابه في الأمم المتحدة مباشرةً، واجه العاصفة المرتبطة بجهوده المزعومة لربط مساعدات عسكرية إلى أوكرانيا باستعداد كييف لاستخراج أدلة على فساد نائب الرئيس السابق جو بايدن، أبرز منافس للرئاسة عن الحزب الديمقراطي. حين واجه ترامب وسائل الإعلام، حاول أن ينفي اتهامات استغلال السلطة قائلاً إنه أوقف حزمة المساعدات للضغط على الحلفاء الأوروبيين وحثهم على تقديم مساعدات إضافية لأوكرانيا. فقال: «أتساءل دوماً: لماذا لا تجمع بلدان أخرى، في أوروبا على وجه التحديد، أي أموال لأوكرانيا»؟ في ما يخص الادعاء القائل إنه ضغط على أوكرانيا لتحقيق مكاسب سياسية شخصية، أصر ترامب عند لقائه مع الرئيس البولندي أندريه دودا على أنه لم يقم بأي فعل مشابه.
لكن لم تنجح هذه المراوغات كلها، ففي نهاية اليوم أعلنت رئيسة مجلس النواب الأميركي نانسي بيلوسي بدء تحقيق رسمي لعزل الرئيس، وكان يوماً شاقاً بالفعل!لكنّ عدم استعداد ترامب لقرع طبول الحرب ضد إيران لم يكن نتاج الاضطرابات المحلية فحسب، فقد طرح خطابه مجدداً قناعته الانعزالية الجديدة التي تدعو الولايات المتحدة إلى تقليص التزاماتها في الخارج، وقال: «نريد شركاء لا خصوما، ولا ترغب الولايات المتحدة في خوض هذه الحروب اللامتناهية». يتماشى تردد ترامب في إطلاق تحرك عسكري ضد إيران مع تصميمه على سحب القوات الأميركية من سورية وأفغانستان. وفي حين يستعد لخوض حملة إعادة انتخابه، يريد أن يثبت للناخبين أنه يعمل على إنهاء الحروب بدل إطلاقها، ولم يكن اختياره شعار «أميركا أولاً» مجرّد مصادفة، بل إن سياسة ضبط النفس هذه تُذكّرنا بكل وضوح بموقف الانعزاليين بين الحربَين العالميتَين: حارب هؤلاء بكل قوتهم لإبقاء البلد خارج الحرب العالمية الثانية.لطالما نفّذ ترامب وعوده الانتخابية بشكل عام، فانسحب من المعاهدات، وكبح مسار التجارة الحرة، وقمع توافد المهاجرين، لكنه فشل في المقابل بتقليص الانتشار العسكري، فلم يتمكن من تنفيذ وعوده بإنهاء الحروب اللامتناهية. بسبب البنتاغون أو مستشار الأمن القومي السابق جون بولتون المؤيد لاستعمال القوة، فشل ترامب في سحب القوات الأميركية من سورية والعراق. لكن بعد رحيل بولتون، قد يحقق الرئيس نتائج أفضل في هذا المجال. ربما تشير نبرته الهادئة وغياب العبارات العدائية في خطاب يوم الثلاثاء إلى تصميمه القوي، في بداية الموسم الانتخابي، على تنفيذ وعوده بالانسحاب.لكن رغم هدوء نبرة ترامب وموقفه الحذر من إيران، فإنه تمسك بشعار «أميركا أولاً» وجعله محور خطابه في الأمم المتحدة. عكست واحدة من أهم رسائله أمام الجمعية العامة (أي ضرورة استبدال العولمة بالقومية) النقطة الأساسية في خطابَيه السابقَين في الأمم المتحدة. قال ترامب: «إذا أردتم الحرية، فافتخروا ببلدكم، وإذا أردتم الديمقراطية فتمسكوا بسيادتكم، وإذا أردتم السلام فأحبوا وطنكم... المستقبل ليس ملكاً لمؤيدي العولمة، المستقبل مُلك للوطنيين، المستقبل مُلك للدول السيّدة والمستقلة».لم يفوّت ترامب طبعاً فرصة أن ينتقد التعددية والأمم المتحدة بحد ذاتها، فعبّر مجدداً عن معاداته «للاتحادات الدولية التي تربطنا ببعضنا وتدفع الولايات المتحدة إلى الانهيار»، كما قال في خطاب حملته الانتخابية في عام 2016، ويوم الثلاثاء الماضي، حين عبّر عن رفضه الانضمام إلى معاهدة تجارة الأسلحة برعاية الأمم المتحدة، كانت كلماته مشابهة: «لن تسمح الولايات المتحدة للكيانات الدولية، في أي ظرف من الظروف، بالدوس على حقوق مواطنينا، بما في ذلك حق الدفاع عن النفس».بالإضافة إلى الإشادة بسيادة الأوطان، حرص ترامب على معارضة توافد المهاجرين، فقال: «يتعامل عدد كبير من البلدان الحاضرة هنا اليوم مع تحديات الهجرة الخارجة عن السيطرة، ومن حق كل بلد منكم أن يحمي حدوده، وهذا الحق محفوظ طبعاً لبلدنا»، ثم خاطب المهاجرين من أميركا الوسطى مباشرةً وحذرهم قائلاً: «إذا وصلتم إلى حدودنا، فلن نسمح لكم بالدخول، ستعودون فوراً إلى دياركم». تشير هذه الرسالة إلى انطلاق حملة ترامب الانتخابية وتؤكد على ثبات موقفه في هذا الملف، ومن الواضح أنه يعتبر سياسة الهجرة مسألة حاسمة في انتخابات عام 2020 ومن المتوقع أن يتابع التركيز عليها.تطرّق ترامب أيضاً إلى خلافه التجاري مع الصين، فاتهم بكين بسوء النية وزعم أنها «رفضت تطبيق الإصلاحات التي وعدت بها، واختارت نموذجاً اقتصادياً مبنياً على حواجز كبرى في الأسواق، وإعانات حكومية ضخمة، والتلاعب بالعملة، وإغراق السوق بالسلع، وتبادلات تكنولوجية إلزامية، وسرقة الملكية الفكرية، وأسرار تجارية واسعة النطاق». كذلك، تكلم ترامب عن موقفه الصعب في التفاوض، فقال: «لن أوافق على صفقة تسيء إلى الشعب الأميركي». استناداً إلى خطابه، يبدو أن حرباً تجارية مطولة ومتصاعدة تلوح في الأفق.بات ترامب معروفاً بتأييده لمفهوم القومية المبني على شعار «أميركا أولاً»، والسياسة الأحادية، ومعاداة المهاجرين، ومهاجمة الصين. إنها مواقف طبيعية في عهده.لكنّ أبرز الجوانب في خطاب يوم الثلاثاء تعلّقت بالنقاط التي تعبّر عن توجهات معاكسة، فبدا موقف ترامب من إيران أضعف من العادة، وكشف الرئيس عن رغبة حقيقية في تحييد الولايات المتحدة عن الصراعات العسكرية البعيدة. بما أنه يصبّ كامل تركيزه الآن على إعادة انتخابه ويحيط به فريق مؤلف من خبراء أوفياء لتوجيه سياسته الخارجية، سيحافظ ترامب على شخصيته المعتادة، مما يعني أن يتجنب الصراعات العسكرية ويُخرِج الولايات المتحدة مما يعتبره التزامات خارجية مفرطة.ربما لا يحب ترامب الأمم المتحدة أو سياسة التعاون الدولي التي تُمثّلها، لكنه قد يحقق في نهاية المطاف أحد أهدافها الأساسية، أي تقليص حالات الحرب.
بسبب البنتاغون أو مستشار الأمن القومي السابق جون بولتون المؤيد لاستعمال القوة فشل ترامب في سحب القوات الأميركية من سورية والعراق