لليوم الثالث على التوالي، أطلقت القوات الأمنية العراقية مجدداً، أمس، الرصاص الحي لتفريق حشود تجمعت وسط بغداد رغم قرار حظر التجول، الذي أعلنته حكومة عادل عبدالمهدي ودخل حيز التنفيذ من الساعة الخامسة صباح أمس وحتى إشعار آخر، وشمل لاحقاً محافظات ذي قار وميسان والنجف وبابل.
احتجاجات لا تهدأ
وفي بغداد واصل المحتجون إغلاق الطرقات أو إشعال الإطارات أمام المباني الرسمية في النجف، التي شهدت إحراق مقريْ تيار الحكمة وحزب الدعوة.وقبل إعلان حظر التجوال فيها حتى إشعار آخر، قتل 11 بينهم شرطي في ذي قار، وفي كبرى مدنها الناصرية أضرمت النيران بمقار "عصائب أهل الحق" و"منظمة بدر" و"تيار الحكمة" وفي مقر البلدية والمجلس المحلي بقضاء سوق الشيوخ. كما قتل أربعة آخرون في مدينة العمارة، كبرى مدن محافظة ميسان، ومتظاهران في بغداد وآخران في الكوت، في حين أصيب أكثر من 600 شخص بجروح في جميع الأنحاء.وبحسب مصادر طبية، فقد وصل عدد القتلى إلى 20 على الأقل، بينما سقط عشرات الجرحى.متفرقات
وبعد إحراق عدة مبانٍ حكومية، مساء أمس الأول، رصد انتشار أمني كثيف قرب مبنى مجلس بابل تحسباً لأي طارئ، بينما اقتحم متظاهرون مبنى مجلس قضاء الرفاعي.وفي النجف، حذرت الشرطة المحلية من أن "أي متظاهر يعتدي على المال العام سيعامل معاملة الإرهابي"، كما نفت إدارة مطار بغداد اقتحام المتظاهرين لمبنى المطار، وأكدت أن الرحلات الجوية لم تتأثر. وشدد المتحدث باسم الداخلية سعد معن على أن "مسؤولية القوات الأمنية هي الحفاظ على الأمن العام وحماية المتظاهرين".أوصال مقطعة
وفي محاولة لمنع تدفق المتظاهرين، المطالبين برحيل "الفاسدين" وتأمين فرص عمل للشباب، إلى ساحة التحرير وسط بغداد، التي تعتبر نقطة انطلاق تقليدية للاحتجاجات ويفصلها عن المنطقة الخضراء جسر الجمهورية، قطعت القوات الأمنية الطرق الرئيسية بين أحياء العاصمة وضربت طوقاً مشدداً وصدت القادمين من الشوارع الفرعية المجاورة وفي ساحة الطيران.وشهد جسر الجمهورية، مساء أمس الأول، مواجهات عنيفة وحاول مئات المتظاهرين العبور إلى المنطقة الخضراء شديدة التحصين والتي تضم السفارات الغربية. وسمعت ليل الأربعاء ـ الخميس انفجارات عدة داخل المنطقة الخضراء. وقرر رئيس مجلس محافظة بغداد رياض العضاض تعطيل العمل أمس، في كلّ الدوائر التابعة له للسماح لقوّات الأمن بتعزيز نفسها وتشديد قبضتها في مواجهة المتظاهرين.مجلس النواب
وبينما دعا رئيس البرلمان محمد الحلبوسي ممثلي المتظاهرين إلى الحضور لبحث مطالبهم، انتشرت قوات الأمن أمام البرلمان تحسباُ لتكرار مشهد اقتحام انصار التيار الصدري قاعة البرلمان في 2016.عزلة
ومع اتخاذ حكومة عبدالمهدي، التي اتهمت "معتدين" و"مندسين" بالتسبب "عمداً بسقوط ضحايا بين المتظاهرين"، خيار الحزم، سجل انقطاع واسع لشبكة الإنترنت وصل أمس إلى نحو 75 في المئة من مدن العراق وبينها بغداد.ولليوم الثاني، يعاني المتظاهرون في بغداد والمدن الجنوبية انقطاع التواصل في ما بينهم وتعذر نشر فيديوهات وصور الاحتجاجات بعدما أقدمت شركات "إيرثلينك" و"آسيا سيل" و"زين" المزودة للخدمة على "التقييد المتعمد" للوصول إلى الإنترنت.المناطق السنية
ويبدو أن المتظاهرين عازمون على مواصلة تحركهم، الذي شمل محافظات عدة في الجنوب، كمدينة البصرة النفطية التي اجتمعت قيادتها الأمنية بشكل عاجل لمناقشة الوضع الأمني، تحسباً لتكرار سيناريو الاحتجاجات الدامية العام الماضي. ورغم ذلك، لم تمتد التظاهرات إلى المحافظات الغربية والشمالية، خصوصاً المناطق السنية التي دمرتها الحرب ضد تنظيم "داعش" وإقليم كردستان العراق الذي يتمتع بحكم ذاتي.وأكد المتحدث باسم التحالف الدولي الكولونيل مايلس بي كاغين أن انفجاراً وقع في المنطقة الخضراء شديدة التحصين ببغداد ليل الأربعاء الخميس لم يطل أياً من منشآته، معرباً عن قلقه العميق إزاء أعمال الشغب في العراق وسقوط قتلى ووقوع إصابات بين المدنيين وقوات الأمن.وإذ دعا جميع الأطراف إلى تخفيف التوترات، شدد كاغين على أن استهداف قوات التحالف أمر غير مقبول إطلاقاً، مشيداً بفتح السلطات على وجه السرعة تحقيقاً في سقوط صواريخ على المنطقة الخضراء، التي تضم مباني حكومية ومقار السفارات الأجنبية.واعتبر أن التظاهرات السلمية والشعبية تشكل عنصراً أساسياً في جميع الديمقراطيات، ولا مكان للعنف، مؤكداً ثبات موقف التحالف الداعم لحكومة العراق في حربها ضد تنظيم "داعش".وأعربت الممثلة الخاصة للأمين العام للأمم المتحدة في العراق جينين هينيس-بلاسخارت عن "قلق بالغ"، داعية السلطات إلى "ضبط النفس في التعامل مع الاحتجاجات".الرئاسات الثلاث
أعلنت رئاسات الجمهورية والحكومة والبرلمان تشكيل لجنة رسمية للتعامل مع مطالب المتظاهرين وإطلاق حوار وطني شامل، محذرة من تحويل المتربصين والمندسين لمسار الحراك إلى استهداف الأمن الوطني والمصالح العليا.وأكدت الرئاسات الثلاث دعم الحكومة ومجلس النواب لتحقيق الإصلاحات والشروع الفوري في إقرار قانون مجلس الإعمار وتنفيذ قانون الضمان الاجتماعي.من يدفع الثمن
وبينما يتساءل المراقبون عمن سيدفع الثمن السياسي، قرر الزعيم الشيعي مقتدى الصدر دعوة أنصاره إلى تنظيم "اعتصامات سلمية" و"إضراب عام" إذا دعت الحاجة، بينما تسود حالة من الترقب لسماع خطبة المرجعية الشيعية العليا اليوم الجمعة واذا كانت ستبارك التحرك الشعبي أم ستدعو إلى تهدئة.إيران وحلفاؤها
وبعد أن ردد بعض المتظاهرين هتاف "إيران برا برا بغداد حرة حرة"، حسبما أظهرت فيديوهات، وتداول نشاطون صوراً لإحراق علم إيراني، اتهمت "كتائب حزب الله العراق" الموالية لإيران "قوى الشر الأميركية بالتخطيط لاستغلال الأزمات وتحريك أدواتها لإشاعة الفوضى، وإعادة عملائها للتحكم برقاب الشعب العراقي مرة أخرى". وفي الوقت نفسه اتهمت وسائل إعلام مقربة من إيران مثل صحيفة الأخبار اللبنانية واشنطن بتحريك الشارع وعنونت الأخبار على صدر صفحتها الاولى: واشنطن تبتسم للفتنة. من ناحيتها، قالت الخارجية الإيرانية في بيان: "طهران على ثقة من أن الحكومة العراقية ستعمل، إلى جانب الأحزاب والشخصيات السياسية والمرجعية الدينية والزعماء الدينيين، على تهدئة الأجواء المشتعلة في المدن العراقية ولن تسمح لبعض الحركات بإلحاق الضرر بالشعب العراقي وإساءة معاملة الأجانب الوافدين إلى العراق". وحثت الزوار الذين يتجهون إلى العراق لأداء مراسم الأربعين الحسينية على تأخير رحلاتهم حتى تستقر الظروف .الصدر يدعم «من بعيد»
قال الزعيم الشيعي العراقي النافذ، مقتدى الصدر، إنه يؤيد التظاهرات المندلعة في العراق، لكنه يفضل عدم دعوة انصاره للمشاركة بها حتى تحتفظ بطابعها الشعبي ولا تحسب أنها تحرك لتياره السياسي.وفي تغريدة على "تويتر"، كتب الصدر أمس الأول:"إذ اننا لا نريد ولا نرى من المصلحة تحول التظاهرات الشعبية إلى تظاهرات تيارية (نسبة إلى التيار الصدري)، وإلا لأمرنا ثوار الإصلاح (أنصاره) بالتظاهر معهم، ولكننا نريد الحفاظ على شعبيتها تماماً، ونطالب بسلميتها ولو بإسنادها باعتصامات سلمية أو إضراب عام يشترك به الشعب كافة"، وفي إشارة إلى استخدام الرصاص الحي ضد المتظاهرين.وأضاف الصدر: "كما نرفض التعدي على المتظاهرين العزّل الذين لا يريدون علواً في الأرض ولا فساداً ولا عنفاً". ويرى الخبير في الشأن العراقي فنر حداد، أن الطبيعة العفوية للاحتجاجات، وهي الامتحان الأول لحكومة عادل عبدالمهدي، غير مسبوقة، ويقول: "إنها المرة الأولى التي توجد فيها تظاهرات حاشدة وعنيفة دون مشاركة التيار الصدري".ويشير إلى أن التظاهرات التي انطلقت الثلاثاء، أياً كانت نتيجتها، ستظهر شيئاً واحداً للعراقيين ولأولئك الذين يراقبونهم، أن "الأسطورة القائلة بأن أتباع مقتدى الصدر هم فقط الذين يستطيعون إخراج الناس إلى الشوارع ماتت".ويضيف حداد: "يبدو لي أن الناس أنفسهم يمكنهم إخراج الشعب إلى الشوارع"، إذ إن الحراك المطلبي الكبير في عام 2016 الذي أصاب المنطقة الخضراء في وسط بغداد، كان بقيادة الصدر.
«لا سياسيين ولا معمّمين»
يردد المتظاهرون في العراق "لا سياسيين ولا معمّمين" في احتجاجاتهم التي بدأوها قبل أيام، معترضين على الفساد والمحسوبية والبطالة... الهدف نصب أعينهم واضح: تغيير الطبقة السياسية الحاكمة منذ أكثر من 15 عاماً.ويقول المتظاهر مجيد ساهر "34 عاماً" في بغداد: "هذا الحراك لا يشبه أي شيء قبله. حراك شعبي، غير مسيس، ولا صلة له بأي حزب أو عشيرة".ويؤكد المتظاهرون أن التجمعات الكبيرة التي خرجت في بغداد ومدن رئيسية عدة في جنوب البلاد لم تتشكل بدعوة الزعيم الشيعي مقتدى الصدر أو المرجع الأعلى آية الله السيد علي السيستاني.وتبلغ نسبة البطالة 25 في المئة من الشباب العراقيين، بينما القطاع العام الذي كان ملجأ جميع خريجي الجامعات خلال عهد الدكتاتور صدام حسين، أصابه التضخم ولم يعد قادراً على استيعابهم.وبشكل شبه يومي تقريباً وفي كل مدينة أو ناحية من العراق، ينظم الخريجون العاطلون عن العمل اعتصامات متواضعة تقابل بلامبالاة. لكن هذه المرة، نزل هؤلاء بكثافة إلى الشوارع، والتحق بهم كل ساخط على حكومة عادل عبدالمهدي التي تطفئ شمعتها الأول نهاية الشهر الحالي.ويطالب المحتجون بمحاسبة الفاسدين ومكافحة البطالة، وصولاً إلى رفض تنحية قائد عسكري يتمتع بشعبية.ويعاني العراق الذي أنهكته الحروب، انقطاعاً مزمناً في التيار الكهربائي ومياه الشرب منذ سنوات، ويحتل المرتبة 12 في لائحة الدول الأكثر فساداً في العالم، بحسب منظمة الشفافية الدولية.وتشير تقارير رسمية إلى أنه منذ سقوط نظام صدام حسين عام 2003، ابتلع الفساد نحو 450 مليار دولار من الأموال العامة، أي أربعة أضعاف ميزانية الدولة، وأكثر من ضعف الناتج المحلي الإجمالي للعراق.