معظم الأبناء لديهم مهارات متنوعة، وقدرات حماسية عالية، ونادراً ما نجد طفلاً لا يمتلك حماسة فائقة تجاه الأمور التي يرغب فيها، وفي المقابل نجد التواني والتكاسل إزاء الأمور البعيدة عن اهتمامه، وغالباً ما يتحمس الأطفال إزاء الأنشطة الحركية والبدنية التي تمنحهم نشاطاً كبيراً، في حين يصابون سريعاً بالملل والكآبة عند القيام ببعض الأعمال الذهنية أو الفكرية. من الطبيعي ألا يمل الطفل خلال اللعب، وكذلك من الطبيعي أن يمل من الكتاب، فالقراءة بعمليتها الفعالة تجربة ليست هينة وسهلة على الإطلاق، بل قد تشبه الأعمال الشاقة عند كثير من أبنائنا الصغار، ذلك لأنهم اعتادوا على أنماط معينة من الحياة، وباتت عملية التعلم والتلقي تعتمد على وسائط مختلفة- تستثني الكتاب- فضلاً عن استيلاء الألعاب الإلكترونية على عقول الناشئة، وباتت أوقاتهم تتوزع ما بين الجلوس مطولاً أما الشاشات المختلفة، بكل أشكالها، وإن تم في الفترة الأخيرة تسجيل تراجع كبير في متابعة محطات التلفزيون، في حين تتركز المشاهدات على «البرامج الخفيفة». لتنحسر العلاقات الإنسانية المباشرة بينهم إلى أضيق حدود، وبات التواصل الإلكتروني هو الأكثر انتشاراً، بين الصغار كما هو بين الكبار.لا أريد أن أتحدث من الماضي مع أبناء الحاضر والمستقبل، فكل عصر له تكوينه الخاص وسمته المميزة، وإن كان العصر يقاس سابقاً بالعقود والأجيال، فقد بات اليوم يقاس بالشهور وربما بالأيام، فكل يوم هناك جديد، حتى بات البيت الواحد يجد فروقاً كبيرة بين الأبناء أنفسهم، ولا أقول بين الآباء وأبنائهم، فالفارق بالسن قد يكون بضعة شهور لكن هذا الفارق أصبح يشكل عصراً جديداً، من شهر إلى شهر، ومن يوم إلى يوم مع ثورة التطورات الكبيرة والقفزات النوعية المتنوعة فيما ينتج من تكنولوجيا وأفكار وإبداعات تتسابق مع نفسها في ساعات وأيام. الواقع هذا ذو وجهين، وربما ثلاثة وأربعة وخمسة، لكن المقاربة تجعلنا نلحظ وجود خطر حقيقي منظور، بات واضحاً من خلال ما نراه من تبدل أحوال الناس، ولا سيما الأجيال الصاعدة.
أنا لا أدعي أن القراءة هي الحل النهائي لكل أزماتنا الكبرى والصغرى، لكنها مفتاح لكثير من الأبواب، والقراءة باتت اليوم تنحسر شيئاً فشيئاً، ولا يغرنكم كثرة الكتب والمطبوعات، فقليل ما يقرأ الناس، والبعض يبني مكتبة في بيته أو مكتبه لتكون ديكوراً مثلها مثل الكنبة والكرسي والطاولة. لست متشائماً على الإطلاق، لأن هناك تباشير كثيرة، لكنها ليست كافية، صحيح أن القراءة لم تمت نهائياً لكنها اليوم تحتضر وفي العناية المركزة دون أن نحدد التشخيص الصحيح وخريطة الطريق للعلاج الملائم المؤدي إلى الشفاء التام أو على الأقل الشفاء النصفي. أكثر الناس باتوا لا يحبون القراءة، فهي بالنسبة لهم هي التغريدات التي نقرؤها على مواقع التواصل الاجتماعي، وكثير منها يخلو من العقلانية والمنطق واللغة الصحيحة والأسلوب السليم، أما الأطفال فكثير منهم يعتبرون أن القراءة مهمة شاقة، وواجبات المدرسة غير مرغوب فيها. المطلوب «قراءة المستقبل» بعناية مركزة، وما دمنا لا نقرأ فالمستقبل في خطر، وليس في هذا تشاؤم بل تحفيز للهمم. قد يهزأ البعض من إثارة مثل هذا الموضوع في حين الأمة كلها تعيش في صراعات واقتتالات وحروب مدمرة، من يهتم بالقراءة في خضم هذه الأيام الصعبة والحرجة؟ صحيح ما يقال، لكنه ادعاء غير مقبول، ولا بد من تحصين الأجيال القادمة، والحفاظ على ما تبقى من هوية الأمة وحضارتها من أجل المستقبل. لدينا الكثير مما يجمعنا وقليل مما يفرقنا، والكثرة تغلب القلة، من هذه الناحية على الأقل، هذا إذا كانت الكثرة واعية تفهم وتشخص وتدرك وتعمل، فالقراءة البناءة هي الوعي الحقيقي لكل شيء، وهي الخلاص، وهي حبل النجاة لكل الأزمات، وإذا صلحت الطفولة صلح المجتمع، وأي شيء آخر مضيعة للوقت.
مقالات - اضافات
القراءة في العناية المركزة
04-10-2019