إنها المؤامرة مرة أخرى!!
تطاردهم المؤامرة بتعدد نظرياتها، تبقى هي ما نعلق عليه كل خيباتنا وإخفاقاتنا. هل تتذكرون أولئك الطلاب العرب عندما ارتحلوا للدراسة في جامعات أميركا وأوروبا، وفي كل مرة يسقطون في الامتحان يكون الجواب الجاهز هو أن المدرس يكره العرب، أو أنه صهيوني، يتآمر على الطلاب العرب فيسقطهم ليبقوا كلهم شعوبا بالملايين جاهلة، تتعثر في أيامها وترضى بعمل بسيط ضمن أكبر مشغل في الدول العربية حتى الآن ألا وهي الحكومة؟ يجوع الناس ويبحثون عن كرامة لهم في أوطانهم، يتحملون ويعودون للأمثال عن الصبر، وهي كثيرة في تراث كله يعتمد على القدريات والطاعة، تطول أيامهم في زحمة مواصلات عامة مهترئة أو مكتظة، ويجدون أن حياتهم تُقضى في طوابير، بل كلها هكذا للحصول على الرغيف الذي هو ملك كثير من الموائد العربية، أما اللحمة والسمك فقد تحولا من غذاء يومي إلى وجبة احتفالية. وعندما يكثر الجوع وتداس الكرامة ينتفض بعضهم أو من طفح بهم الكيل، وأصبح لا معنى للحياة لديهم. تخرج الجيوش من جحورها ورتابتها إلى الشوارع تواجه العزل بالدبابات التي من المفترض أنها على الحدود تحمي تراب الوطن وأرضه، يعرف الجندي الفقير أصلا أن هؤلاء إخوته يلتحمون حتى تلتقي الأعين الدامعة، وهنا يصرخ أحدهم وتبدأ الماكينة الإعلامية في ترديد "إنها المؤامرة"، كل الدول تتآمر علينا حتى تلك التي تسيطر على حكومات هذه الدول وتزودها بالسلاح الذي لا عازة له إلا عندما ينتفض الجياع، ويثورون للاحتفاظ ببعض ما تبقى لهم من آدمية. إنها المؤامرة يصرخ المذيع، ذاك الذي تسلق طويلا على أكتاف الأنظمة المختلفة "عاش الملك مات الملك"، هو مع الواقف كما يقول المثل الشعبي، ولا يخجل بأن الزمن قد تحول وكل شيء يوفره "الصديق غوغل" بكبسة زر، فيخرج هو بمواقف متناقضة حد الضحك، هو وغيره حولوا الإعلام العربي إلى صراخ وصراع ديكة حتى احتقر العربي نفسه عندما يراها في مرآة شديدة الابتذال، هم "حملة أختام" زمن التكنولوجيا المتطورة والإنترنت السريع، يرددون إنها المؤامرة، فدولة المصونة "فسادستان" العيون عليها وتطاردها أساطير الطامعين، ومؤامراتهم حتى اتهم الفيسبوك بأنه محرك الثورات عبر "نكزة" من تلك الأنظمة المتآمرة دوما علينا، رغم أننا نشرب نخب صداقتنا القوية معها!!
يضيع المواطن العادي بين الخطاب الذي يبدو متناقضا، لكنه في الكثير من الأحيان قد تعلم أن يصدق الوالي حتى لو كذب علنا، ربما خوفا من القادم، ربما توجسا من الآخر، ربما لأنه لم يكبر إلا بين نظرية المؤامرة المستمرة. هناك مؤامرة على الوالي، فهو قد خلقه الإله ولم تنجب الأمهات في بقاع الأرض مثيلا له! وأخرى على منابع النفط أو الثروات المكدسة في "كروش" الطبقات الصغيرة المتربعة فوق سحابة بعيدة تتطلع للملايين الباقين تحت، هناك على أرض لا ترحم، يكررون: هؤلاء لا يستحقون سوى هذه الحياة! وعندما يطفح الكيل بتلك الطبقات يقولون هم حاقدون، وقد حرضهم الاستعمار القديم– الجديد. "إنها مؤامرة أخرى" غيرة من استقرار بلداننا والرخاء الذي يعيش فيه المواطنون أو بعضهم أو أقل أقلهم، ولمَ لا؟ ألا يقول المثل "البقاء للأقوى" أو ربما للأكثر فساداً؟! المؤامرة تستمر وتتعدى ذلك، بل تصل إلى الحياة اليومية في مكان العمل، هناك مؤامرة على العامل أو العاملة الكسولة، موظفون هم تحت مظلة البطالة المقنعة، لكنهم لا يزالون يعتقدون أن هناك مؤامرة عليهم حتى تأتي الإنذارات واحدا تلو الآخر على تقصيرهم في العمل. المؤامرة ليست حكراً على الوالي وحاشيته، بل هي مرض يمتد ليغطي على عيون الشخص أو المؤسسة أو الحكومة أو الدولة، كلما كثر الضعف وقل العمل والإبداع والابتكار كان من الأسهل أن يلقى اللوم على أولئك المتآمرين عليهم، وعلينا، وعلى بلداننا، وعلى شعوبنا. ولكنها الأكثر وضوحا والأكثر استهلاكا عندما تدعي حكومات لا تعرف هموم مواطنيها اليومية، وتتفاجأ أن هناك من لا يعرف "السمون فيميه" أو "الكافيار" كما ماري إنطوانيت، فلذلك عندما يخرجون إلى الشوارع فاتحين صدورهم لرصاص قادم يخترق العين أو القلب يسقطون، هم شباب تعبوا من البطالة كثيرا وطوابير العاطلين والعربات الفارهة تمر مسرعة لا تراهم ولا ترى وجوههم الشاحبة، فهم كما حجر الرصيف لا مكان لهم في هذه الأوطان إلا "كمالة عدد". لا تصرخ يقول ذاك وإلا كانت صرخة قد صنعت في تلك العاصمة البعيدة التي تكره للوالي وأسرته نوم الهناء فوق المفارش الحريرية المزركشة.* ينشر بالتزامن مع "الشروق" المصرية