أوروبا لن تتحمّل جنون أزمة «بريكست» بعد الآن!
رغم كل شيء، حان الوقت كي يتوصل الاتحاد الأوروبي إلى اتفاق مع المملكة المتحدة حول خطة "بريكست"، فالتسوية هي الطريقة الوحيدة للخروج من هذه الفوضى كلها، ومن الطبيعي أن يقاوم الجميع فكرة استئناف النقاش حول اتفاق "بريكست" بعدما تم التفاوض عليه بشكلٍ نهائي. يعني تجدّد مساعي التسوية هذه المرة تقديم تنازلات لبوريس جونسون، رئيس الحكومة البريطاني الذي أغرق بلده في أزمة وطنية، وانتهك القانون، وخدع الملكة، وسخر من البرلمان، ولا أحد يرغب طبعاً في منحه فرصة الانتصار عبر تمكينه من سحب بريطانيا من الاتحاد الأوروبي.لكن في ظل الوضع الراهن، سيكون التحدي سلوكاً خاطئاً. حان الوقت كي يُقيّم أصحاب العقول الراجحة أهون الشرَّين بالنسبة إلى الاتحاد الأوروبي: عقد تسوية صعبة، أو تمديد عذاب "بريكست" والمجازفة في مطلق الأحوال بخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي من دون اتفاق.طرح بوريس جونسون هذا الأسبوع اقتراحاً أمام الاتحاد الأوروبي لحل مسألة الحدود الداخلية الأيرلندية المُلحّة، ووفق المعلومات المتاحة عن ذلك الاقتراح، يبدو أنه ليس من النوع الذي توافق عليه بروكسل أو أيرلندا بسهولة، لكن يُفترض أن يقبل به الاتحاد الأوروبي باعتباره نقطة بداية لخوض نقاشات جدّية. لا يريد جونسون أن يضطر للجوء إلى القانون الطارئ الذي يمنع نشوء حدود خاضعة لرقابة مشددة بين جمهورية أيرلندا وأيرلندا الشمالية، لذا يفضّل إيجاد حل للمشكلة الأيرلندية سريعاً. تقضي هذه الفكرة بتخلي الاتحاد الأوروبي عن ذلك القانون وموافقة بريطانيا في المقابل على إبقاء أيرلندا الشمالية موقتاً داخل السوق الموحدة للاتحاد الأوروبي، لكن خارج الاتحاد الجمركي. لا بد من إيجاد حل لوضع الحدود في المرحلة اللاحقة، على أن يتراوح بين الحفاظ على حرية حركة السلع وخضوع الحدود الخارجية للاتحاد الأوروبي لرقابة مشددة. يجب أن يقبل الاتحاد الأوروبي على الأرجح بنشوء ما يشبه "المنطقة الرمادية".
من خلال تأجيل خطة "بريكست"، يأمل البعض أن تحصل بريطانيا على الوقت الكافي لإجراء استفتاء آخر حول هذه المسألة. يتوقع الكثيرون أن يختار الناخبون البريطانيون هذه المرة البقاء في الاتحاد الأوروبي وسرعان ما يصطلح الوضع كله. لكنها مجرّد أحلام!ما من مسار واضح أصلاً لإجراء استفتاء ثانٍ، إذ يتعين على كل من عوّل على "حزب العمال" أن يدرك الحقيقة الآن، لا سيما بعد مؤتمر الحزب منذ أسبوعين، وحتى لو جرى استفتاء جديد وغيّر البريطانيون قرارهم، سيبقى البلد منقسماً جداً. من المتوقع أن يدّعي مؤيدو "بريكست" أنهم وقعوا ضحية خيانة كبرى، وستبقى بريطانيا مصدراً للأزمات داخل الاتحاد الأوروبي، وسرعان ما تؤدي بريطانيا المنقسمة والمشلولة إلى تعطيل الاتحاد كله. يتعلق سيناريو محتمل آخر بإجراء انتخابات جديدة، حيث يُكلَّف جونسون بقيادة البلد نحو إقرار خطة "بريكست بلا اتفاق"، تزامناً مع تباطؤ النمو الاقتصادي في الاتحاد الأوروبي وحصول ركود وشيك في ألمانيا. ستترافق هذه الخطة المثيرة للجدل مع عواقب تتجاوز القطاع الاقتصادي حتماً، إذ لا مفر من أن تتضرر العلاقات بين بريطانيا والاتحاد الأوروبي بشكلٍ دائم. إنها أسوأ نتيجة ممكنة بالنسبة إلى أيرلندا، كونها تُمهّد لنشوء حدود خاضعة لرقابة مشددة بين جمهورية أيرلندا وأيرلندا الشمالية.لهذا السبب، يتعين على الاتحاد الأوروبي أن يراجع حساباته: من مصلحته أن يجد تسوية مع البريطانيين، ولا داعي كي يخشى الاتحاد بعد الآن تكرار أزمة "بريكست" مع بلدان أخرى في حال بدت بروكسل خاضعة أكثر من اللزوم. يُفترض أن يشكّل وضع بريطانيا خلال السنوات الثلاث الماضية (أزمات في الحكومة والبرلمان، وتهديد بتفكك المملكة المتحدة) رادعاً كافياً لجميع الأطراف الأخرى.بعد أكثر من سنتين من المفاوضات والصراع المحتدم، أصبحت خطة "بريكست" حتمية، ومن مصلحة الجميع أن تكتمل، وسيكون الانفصال بطريقة إيجابية شرطاً أساسياً لضمان علاقة سليمة مستقبلاً. لقد انشغل الاتحاد الأوروبي بملف لندن ومغامراتها لوقتٍ طويل، وقد سبق أن استنزفت خطة "بريكست" ما يكفي من الانتباه والموارد والطاقة ونشرت المخاوف من تعطيل الاتحاد بسببها والذي يحتاج إلى استجماع قوته لمواجهة مسائل أخرى، على غرار بدء الحملة الانتخابية الرئاسية في الولايات المتحدة، والتعامل مع الصين، وملف الهجرة، ومخاطر الركود الاقتصادي، والسياسة المناخية. حان الوقت لتبني مقاربة منطقية وإقفال هذا الملف نهائياً، فما عاد الاتحاد الأوروبي يستطيع تحمّل كلفة جنون أزمة "بريكست"!* كريستيان هوفمان* «دير شبيغل»