عندما زحفت «المدنية»!!
عند مدخل الحي بقي ذلك الدكان سنين طويلة حتى بعد أن توفي صاحبه وورثه أبناؤه الذين لم تكن لهم الطاقة نفسها ولا الاهتمام به، فتحول تدريجيا إلى مكان لجمعة الأصدقاء وكثير من سكان الحي من الشباب يتسامرون وأعينهم على مداخل ومخارج المكان. كان البعض يطلق عليهم برج المراقبة لأنهم الأكثر معرفة بكل ما يحدث في الحي على الأقل في ساعات النهار الطويلة، يشربون الشاي كثيراً وأحيانا بعض الحلوى والقهوة بالهال. ولا يمكن أن يكون هناك حي في المدن العربية أيام زمان دون أن يتوسط الحي قهوة هي حقيقة "برلمان" ذاك الزمان، يتناقش الجميع ويختلفون على الكثير وهم يلعبون الورق و"الكيرم"، وهي لعبة شعبية عرفتها مدن الخليج، عبارة عن خشبة مربعة بألوان وفتحتات في الزوايا الأربع، وقطع من الخشب الملون دائرية الشكل، وعلى المتسابقين أن يسقطوا القطع الخشبية في الفتحات الأربع، وغيرها من الألعاب الأخرى، وكانت السياسة ليست بعيدة عن تلك الجلسات رغم أن المكان بل كل الأمكنة لم تكن تخلو من "العسس"، ولكن ربما أن الأنظمة لم تتوحش حينها كما الحال الآن! يعلو الصريخ أحيانا بين مؤيدي الناصرية والقومية العربية والبعثيين وبعض اليسار الجديد، ولم تكن القهوة لتقديم الشاي وغيرها من المشروبات الساخنة والمثلجة فقط، بل بعض الأطعمة الخفيفة الأخرى أيض، وهناك عند الزاوية الأخرى دكان الحي المعتاد مكتظاً بكل الاحتياجات الأساسية لكل بيت، إلى جانب المشروبات الغازية. تدريجيا زحفت ما عرف بـ"المدنية" إلى المدينة، تصور سكان الحي أن حيهم سيبقى يحافظ على تراثه وتفاصيله، بقي وصمد بعض الشيء ولكن كان الضحية الأولى القهوة الشعبية التي أغلقت أبوابها بعد أن هجرها سكانها الأصليون وبقي منهم بعض كبار السن الذين كانت هي كل حياتهم اليومية، ومجالس يتسامرون فيها ويعيدون ذكريات الأيام الجميلة.
انتقل رواد القهوة الشعبية إلى المقاهي التي اقتربت تدريجيا من حيهم من ستاربكس إلى كوستا كافي، حيث استبدلوا بالقهوة الشعبية والشاي المسكر الكابتشينو والللاتيه بنكهاتها المتنوعة. أما الضحية الثانية فكان ذلك الدكان الصغير عندما بدأت أسواق السوبرماركت العالمية تفتح أبوابها بأرفف مزينة بكل ما لذ وطاب، مغريات كثيرة تستعدي المشتري لامتلاكها رغم أنه أو أنها قد لا يكونان بحاجة لها. كلها أشهر أو أقل وأغلقت المحلات أبوابها واحداً خلف الآخر، وانفض الرواد وتناثروا أو بحثوا عن مقهى آخر يبعد بعض الشيء، قد يكون قاوم الزحف القادم مع ما سمي "المدنية" والحضارة القادمة بثقافات متعددة، وفي البداية محتقرة كل ما هو تراثي، كما هجر القهوة روادها، رحل سكان الحي إلى المدن الحديثة ببيوت "فلات" كبيرة وحدائق وأحيانا حمامات للسباحة أو شقق مكتظة للطبقات الأقل في إمكاناتها المادية. تكفلت الدولة بمدن للفئات المحدودة الدخل، فقدت العائلات ترابطها وتواصلها، وابتعد الكثيرون حتى أصبح لقاء الأخ بالأخ عبر المواعيد، وأغلقت تلك البيوت بأحواشها الجميلة الرطبة في الصيف عندما كانت النساء ترشها في أيام الصيف بالماء لتخفف من حرارة الجو، تركوها وتصوروا أن الحضارة هي القادم من هناك من أفلام هوليوود بنسائها الأنيقات ورجالها المهندمين. اختفت المشروبات البسيطة، واكتظت الأرفف بمشروبات بنكهات مختلفة حتى احتار المشتري فيما يشرب، وهي كالمقاهي الحديثة كلما تعود الزوار على مشروب خلقوا الجديد، أليست هي ثقافة الاستهلاك التي أصبحت نمطاً للحياة الحديثة؟ انتقلت العمالة الوافدة إلى الأحياء التي هجرها أهلها لرخص الإيجارات، وانتشرت روائح الأطعمة الآسيوية المتنوعة واحتلت مكانها بدلا من رائحة السمك الطازج المقلي عند ظهيرة أهل الحي، وتحولت يافطات المحلات لتحمل أسماء بلغات وأحرف بعيدة عن تلك الأرض، واختلطت الأحياء حتى فقدت شكلها وتفاصيلها. التهجين هو ما طغى على ذلك الحي وغيره، كما زحفت "المدنية" زحف الإهمال على تلك الأحياء وعندما وعى أهلها على أهمية أن يحافظوا على تراثهم أو ما تبقى منه، كان بعضها قد غادر دون عودة، وبقي أهلها يترحمون على تلك الأحياء، على حياتهم البسيطة وعلى محبة وتواصل رحلا عندما زحفت "ستاربكس" لتحل محل قهوة محمود!* ينشر بالتزامن مع "الشروق" المصرية