ما الذي تخطط له إيران في دير الزور؟
من خلال بناء مقامات شيعية جديدة في مواقع مقدسة قديمة أو على مقربة منها كان قد سبق لسلالات سنية أن أسستها، يسعى «الحرس الثوري» إلى تشكيل شرعية دينية محلية، إذ تتماشى هذه المهمة بشكل جيد مع العديد من المنظمات الإنسانية التي أنشأتها إيران في دير الزور، والتي تُعرِّف السكان المحليين بالعقائد الشيعية أثناء توزيع المساعدات عليهم.
أعادت سورية والعراق في 30 سبتمبر فتح معبرهما الحدودي الرئيس بين البوكمال والقائم، الذي كان مغلقاً رسمياً منذ خمس سنوات، وحملت الظروف المحيطة بهذا الحدث دلالات كثيرة. ووفقاً لمسؤولين ووسائل الإعلام في إيران، تكتسب إعادة فتح المعبر «أهميةً استراتيجيةً كبيرةً» في تقوية «التحالف الثلاثي» للجمهورية الإسلامية مع بغداد ودمشق. وكما جاء في مقال نُشر مؤخراً في وكالة «مهر للأنباء»، فإن هذا الحدث قد «يمهّد» الطريق أيضاً أمام إيران لمواجهة الوجود العسكري الأميركي المحتمل تقلصه في شمال شرق سورية من خلال السماح لـقوات الحشد الشعبي وجماعات أخرى بدخول الأراضي السورية بالكامل والقضاء على الإرهاب، في إشارة جزئياً إلى الميليشيات الشيعية ضمن «قوات الحشد الشعبي» العراقية التي غالباً ما تنشط على الحدود.
تهميش قوات الأسد
وفقاً لناشطين سوريين معارضين للنظام، تسيطر إيران ووكلاؤها حالياً على سبع بلدات على الأقل على الجانب الشرقي من نهر الفرات الممتد جنوب مدينة دير الزور، من الميادين إلى البوكمال. ويشمل ذلك سلطةً عسكريةً كاملةً وإدارةً تنفيذيةً يمارسها ما يقرب من 4500 عنصر مسلّح، بعضهم من «الحرس الثوري» الإيراني والبعض الآخر من ميليشيات شيعية مثل «لواء الباقر»، و«كتيبة الفاطميون»، و«الحشد الشعبي»، ومختلف الجماعات التي تطلق على نفسها «حزب الله السوري». وكان وجود هذه العناصر أضعف بشكل كبير الدور المحلي لميليشيات «قوات الدفاع الوطني» التابعة لنظام الأسد، ويُعزى ذلك جزئياً إلى انعدام ثقة «الحرس الثوري» الإيراني بقدرات هذه القوات، ولكن أيضاً بسبب خطة طهران الطويلة الأمد لتعزيز نفوذها الخاص. ووفقاً لمدير شبكة «دير الزور 24» الإخبارية، عمر أبو ليلى، «يُسمح فقط» لـ«قوات الدفاع الوطني» بممارسة السلطة على المناطق المدنية في محافظة (دير الزور) ولا يُسمح لها بالمشاركة في المعركة. وفي بعض الحالات، أُفادت بعض التقارير أن «الحرس الثوري» اعتقل مقاتلين من «قوات الدفاع الوطني» بسبب صراعات داخلية على السلطة، وحتى وجود الوحدات العسكرية الروسية قد تراجع على ما يبدو في جميع أنحاء المحافظة.وفي الوقت نفسه، تقوم إيران ببناء قاعدتين عسكريتين جديدتين في المنطقة: إحداهما في الضواحي الغربية لمدينة الميادين، والأخرى أكبر حجماً في البوكمال أُطلق عليها اسم «الإمام علي». ويتمّ بناء القاعدتين بالتعاون مع «جهاد البناء» و«منظمة الإمام الحسين»، وهما مؤسستان ترعاهما إيران ولهما فروع في مدن دير الزور، والميادين، والبوكمال. وستعزز هاتين المنشأتين هدف طهران المتمثل في السيطرة على طريق استراتيجي رئيسي: من البوكمال شمالاً إلى محطة ضخ النفط في الميادين «تي- 2»؛ ومن ثم غرباً إلى التياس التي تضّم محطة الضخ/القاعدة الجوية السورية «تي-4»؛ وأخيراً إلى سهل البقاع في لبنان، المعقل الرئيسي لـ«حزب الله». على الرغم من أن الميليشيات الشيعية في دير الزور تضم فصائل أفغانية وباكستانية، فإنّ «قوات الحشد الشعبي» العراقية هي بمثابة القناة المالية الرئيسة لإيران في المحافظة، ولا سيما في البوكمال، وتختلف الرواتب وأساليب توزيعها بحسب جنسية المجند. على سبيل المثال، يتقاضى المقاتلون العراقيون في سورية حوالي 400 دولار شهرياً عبر بطاقات «ماستر كارد» تُعطى لهم من قبل «الحشد الشعبي». أما المقاتلون من جنسيات أخرى، فيتقاضون أموالهم نقداً وشخصياً، وغالباً ما يتمّ سحبها من مصارف خاضعة لإدارة «قوات الحشد الشعبي» في العراق، في انتهاك محتمل لسياسة العقوبات الأميركية.أما فيما يتعلق بالمجندين السوريين المحليين، فيتم دفع رواتبهم مباشرة من قبل «الحرس الثوري» بمبالغ تعتمد على المهام الفردية الموكلة لهم، فأولئك الذين يخدمون في مدنهم وقراهم يحصلون على 100 دولار شهرياً، في حين يحصل الذين يتوجهون إلى الخطوط الأمامية على 150 دولاراً بالإضافة إلى الآليات العسكرية وقسائم الوقود والأموال المخصصة لمصاريف متنوعة. ووفقاً لشخصيات محلية مناهضة للنظام، فإن هذه الممارسات المالية لـ«الحرس الثوري» المنظمة جيداً تفوق بكثير الهيكلية الأمنية «الفوضوية والمفلسة» لنظام الأسد. وعلى غرار ما حدث عندما سيطر تنظيم «الدولة الإسلامية» على المنطقة، تستقطب الحوافز المالية لـ«الحرس الثوري» الرجال السوريين العاطلين عن العمل والفقراء، وكذلك المقاتلين الأجانب.تتجلى مبادرات إعادة الإعمار ومشاريع الأعمال العامة التي تنفذها إيران في سورية أكثر فأكثر، فإلى جانب تقديم مدفوعات مباشرة إلى المجندين الشيعة، يتغلغل «الحرس الثوري» الإيراني و«الحشد الشعبي» في النسيج الاجتماعي لغالبية السكان العرب السنّة من خلال مجموعة متنوعة من الأنشطة الاجتماعية والاقتصادية، الأمر الذي يساعد هذه القوات على فرض مذهب الشيعة الإثني عشرية على السكان المحليين الذين يعانون ضائقة مالية.وتؤدي بعض القبائل المحلية في دير الزور دوراً رئيسياً في تطبيق هذه الأجندة الإيرانية، ففي مناطق مثل صبيخان والميادين، أمر «الحرس الثوري» الإيراني شيوخ القبائل بدعوة السكان لحضور فعاليات تنظم في حسينية شيعية حيث يتمّ توزيع الجوائز والمساعدات على الأيتام والنساء وعوائل الشهداء. وتشير المصادر المحلية أيضاً إلى أن الشيخ نواف البشير من قبيلة «البقارة» يدير ميليشيا تدعمها إيران في المحيميدة. وبالمثل، يُعتبر صالح محمد إسماعيل البعاج، أحد المسؤولين في قبيلة «البعاجين» في الميادين، حليف طهران الرئيس في نشر مذهب الاثني عشرية بالتعاون مع «المركز الثقافي الإيراني» في دمشق؛ هذا بالإضافة إلى دوره كمستشار ديني لـ«لواء أبو الفضل العباس»، وهو وحدة ميليشيا موالية للأسد تتألف من مقاتلين عراقيين ولبنانيين.وأصبحت «العصا» في نهج «العصا والجزرة» هذا واضحة أيضاً، ففي العام الماضي، على سبيل المثال، ألقت السلطات السورية القبض على عشرين من أئمة السنة من صبيخان والميادين والبوكمال وغيرها من المدن لرفضهم الدعوة إلى الصلاة بأسلوب شيعي، وفي المقابل تلقّى الأئمة الذين لبّوا النداء زيادةً في الأجور. وتم تعزيز مركز دير الزور في تحقيق الأهداف الدينية والاستراتيجية لإيران في يوليو الماضي، عندما زار قائد «فيلق القدس» التابع لـ«الحرس الثوري الإسلامي» قاسم سليماني مدينة البوكمال شخصياً. وهناك التقى مع قادة ميليشيات من أجل تأسيس وحدة جديدة تحت اسم «لواء حراس المقامات»، التي ستُكلَّف بالدفاع عن المقامات الشيعية التي بنيت مؤخراً في دير الزور. ومن خلال بناء مقامات شيعية جديدة في مواقع مقدسة قديمة أو على مقربة منها كان قد سبق لسلالات سنية أن أسستها، يسعى «الحرس الثوري» إلى تشكيل شرعية دينية محلية، وسوف تتماشى هذه المهمة بشكل جيد مع العديد من المنظمات الإنسانية التي أنشأتها إيران في المحافظة، والتي تُعرِّف السكان المحليين على العقائد الشيعية أثناء توزيع المساعدات عليهم.في الآونة الأخيرة، دفع هذا المزيج من الآليات الإيرانية بسكان محافظة دير الزور إلى تنظيم احتجاجات ضد نظام الأسد وانتقاد الوجود العسكري لـ«الحرس الثوري» وتأثيره الاجتماعي، وتمثّل هذه المظاهرات فرصةً مهمةً للولايات المتحدة وحلفائها الإقليميين لقلب الاتجاهات المثيرة للقلق على الأرض، سواء عن طريق الإدلاء علناً بدعم المتظاهرين، وحمايتهم من الأذى عند الإمكان، أو مساعدتهم سراً. إن القيام بذلك لن يدعم مطالب السوريين المبررة فحسب، بل سيعوق أيضاً هدف إيران المتمثل بتأسيس «هلال شيعي» عبر العراق وسورية ولبنان؛ وهي نتيجة قد تشكل تهديداً كبيراً للمصالح الأميركية ومصالح الحلفاء في الشرق الأوسط. بالإضافة إلى ذلك، على الحلفاء تكثيف إجراءاتهم الأكثر قسرية عند الضرورة، بدءاً بشنّ ضربات جوية إضافية ضد عناصر «الحرس الثوري» الإيراني والوكلاء الإيرانيين المحددين [كعملاء للجمهورية الإسلامية] داخل سورية، وصولاً إلى منع أو تثبيط مؤسسات «قوات الحشد الشعبي» العراقية من تحويل الأموال إلى المقاتلين الذين ينفذون عمليات عبر الحدود.