عندما أنشئ نظام الأبارتهايد العنصري في جنوب إفريقيا، قامت حكومته، بتأسيس نظام فصل عنصري يجبر الأفارقة على العيش في أحياء معزولة، ومناطق مغلقة، لإبعادهم عن المدن وعن أي دور في الحياة السياسية أو امتلاك الأرض والمقدرات الاقتصادية، وكان الهدف عزل الأفارقة عن الأقلية البيضاء الحاكمة، وجعلهم عبيدا خادمين لها، محرومين من حقوق الإنسان والحماية، وفي الوقت نفسه أنشأ نظام الأبارتهايد حكومات محلية هزيلة تدير شؤون الأفارقة داخل البانتوستانات، دون أن يكون لها سيادة أو سيطرة، سوى الحق في اضطهاد رعاياها وضبطهم. ولتعميق الفرقة والتقسيم تعمدت حكومة الأبارتهايد أن تجزئ الغالبية الإفريقية في بانتوستانات منفصلة حسب أصولهم العرقية والعشائرية ودينهم، فالزولو مثلا كان عليهم العيش فقط في بانتوستان كوازولو، ولم يكن للأفارقة حق المواطنة إلا في البانتوستان المحدد لهم.
وفي بعض الأحيان سعى نظام الأبارتهايد إلى فصل بعض البانتوستانات كليا عن جنوب إفريقيا، ليخفف من المعضلة الديمغرافية، ولعزلهم في مناطق محطمة اقتصاديا ولا قدرة لها، وكان البيض يملكون 87% من أراضي جنوب إفريقيا، وبالتالي لم يكن للأفارقة مصادر رزق زراعية أو صناعية في بانتوستاناتهم، ولشدة فقرهم وانعدام قدرتهم الاقتصادية كان على ملايين الأفارقة أن يتنقلوا بتصاريح للعمل في مصانع ومناجم ومزارع البيض، ثم يعودوا للنوم في معازلهم، وهكذا أصبحت البانتوستانات مستودعات للقوة العاملة البشرية، وللبطالة، وللفقر، والعبودية.ذكرت كل ذلك، لأقارن بين ما فعله نظام الأبارتهايد البائد في جنوب إفريقيا وما يقوم به حكام إسرائيل في فلسطين، ولعل صورة غزة ومعازل الضفة الغربية، وعمالها خطرت لأذهانكم وأنتم تقرؤون ما كُتب سابقا، إذ قطعت حكومات إسرائيل الضفة الغربية إلى 224 جزيرة معزولة عن بعضها بالحواجز، والجدار، والمستعمرات الاستيطانية، وقسمتها إلى مناطق أ، ب، ج، ومنح الفلسطينيون حكما ذاتيا منقوصا في المناطق التي مازال جيش الاحتلال يخترقها كما يريد، وعندما يريد، وتحولت الجزر الفلسطينية إلى مستودعات للعمالة الرخيصة والمستغلة لمصلحة الاقتصاد الإسرائيلي، ولا يستطيع العمال الفلسطينيون التنقل، كما كانت الحال في جنوب إفريقيا إلا بتصاريح، مع بدعة فساد جديدة، حيث يدفع العمال رشوة لمستغليهم الإسرائيليين ولسماسرة ووسطاء فلسطينيين تصل إلى 2500 شيكل شهريا، كي يؤمنوا استمرار تصاريحهم.أما قطاع غزة، وفيه نحو مليوني فلسطيني فعزل بالكامل، وحوصر وجرى تحطيم اقتصاده، وتحويله إلى مستودع للفقر، والأزمة الإنسانية والبطالة الأسوأ في العالم، وتسعى إسرائيل بالقوة، والبلطجة، والقوانين الجائرة إلى ضم معظم أراضي الضفة الغربية، كما تعمل على تعميق وتشجيع الانقسامات المناطقية والعشائرية بين بانتوستانات الشمال والوسط والجنوب، وكل ذلك لتحطيم حق الفلسطينيين في المواطنة الكاملة، والحرة، في وطنهم.والفرق بين بانتوستانات جنوب إفريقيا، ومثيلاتها في فلسطين يكمن في أمرين: أولا أن معازلنا أصغر حجما، وثانيا أن نظام الأبارتهايد الإسرائيلي أكثر بشاعة مما كان في جنوب إفريقيا، ولذلك فإني أقترح أن نطلق على بانتوستاناتنا اسما يتناسب أولا مع حجمها، وثانيا مع تاريخ أولئك الذين يضطهدوننا من صانعي الأبارتهايد الجديد، أي أن نسميها «جيتوستانات».لم ينجح نظام «البانتوستان» في جنوب إفريقيا وانهار بفضل نضال شعبها، ولن ينجح نظام «الجيتوستان» وسينهار في فلسطين بفضل نضال شعبنا، وتضامن المخلصين معه. تساؤل أخير، أطرحه تعليقا على ما سمعناه من فتاوى غريبة مؤخرا بإمكانية إجراء انتخابات في الضفة الغربية بدون قطاع غزة، أي بدون مشاركة أهل غزة، في هذه الانتخابات: هل يدرك الذين يفكرون بمثل هذا الأمر، أنه يعني تكريس نظام «الجيتوستانات» بداية في الضفة، ومن ثم عزلها في كل محافظة على حدة، وأنه سيخدم دعاة إنهاء فكرة الدولة الفلسطينية المستقلة وحق المواطنة المتساوية للفلسطينيين، وأنه سيكرس فصل جيتوستان غزة بالكامل عن فلسطين؟ لدينا الكثير مما نتعلمه من تجربة جنوب إفريقيا، والكثير مما يجب أن نعمله للقضاء على نظام «الجيتوستان» العنصري. * الأمين العام لحركة المبادرة الوطنية الفلسطينية
مقالات
جيتوستانات
20-10-2019