المعروف أن الرئيس الأميركي دونالد ترامب سبق له أن حذر حكومة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان من تعرضها لعقوبات أميركية إذا أقدمت على خطوات استفزازية في شمال شرق سورية، كما أوفد لهذه الغاية نائبه بنس ووزير خارجيته بومبيو إلى المنطقة لنقل تلك الرسالة التحذيرية. وبعد أن هدأت الانفجارات الأولية في ذلك النزاع المهدد لأكثر من جانب يبدو أن إدارة الرئيس ترامب لم تعط الضوء الأخضر للرئيس التركي أردوغان للقيام بذلك الغزو للجارة سورية، ولكننا، على أي حال، في حاجة الى سماع تعليق الرئيس ترامب حول قضايا تشغلنا وتؤثر علينا كلنا بشكل أو بآخر.
وتعيد ردة فعل الرئيس الأميركي ترامب على التوغل العسكري التركي في سورية الى الأذهان أول اجتماع له مع نظيره الروسي فلاديمير بوتين في هلسنكي، حيث حفلت كلماته بالكثير من الفوضى والتشويش وعدم الوضوح، وربما كان سيقدم خدمة أكبر لنفسه، ولبلاده لو أنه تصرف بصورة أكثر تصميماً منذ البداية وعدم ترك الأمور عرضة لمختلف التفسيرات في المقام الأول.والمتتبع لأخبار قمة هلسنكي المشار اليها والمؤتمر الصحافي الذي صدر في نهايتها يتذكر كم كانت عصية على الفهم والوضوح، وعلى سبيل المثال فقد تحدث الرئيسان بلهجة مازحة مثل أخوين عزيزين، وهي سمة تتعارض تماماً مع سياسة الولايات المتحدة التي فقدت صبرها من سجل الرئيس بوتين الحافل بخطوات زعزعة الاستقرار.
ثبات السياسة الأميركية
وبعد تلك القمة سارع المسؤولون الأميركيون الى التأكيد بأن سياسة واشنطن لم تتغير وأن طريقة تصرف الرئيس ترامب مع نظيره الروسي شبيهة بما قام به من تودد الى كوريا الشمالية والصين وإيران، وكانت رسالته تقول إنه سيتصرف بطريقة لبقة وودية إذا لم تنتهك تلك الدول المصالح الحيوية للولايات المتحدة.ولدينا الآن تغريدات الرئيس ترامب حول الأزمة المتفاقمة في سورية والتي تشير بكل تأكيد الى أنه أعطى نظيره التركي أردوغان الضوء الأخضر لغزو سورية، ومثل المؤتمر الصحافي الذي أعقب قمة هلسنكي حفلت تلك التغريدات بالكثير من التشويش والغضب ودفعت الى طائفة من التفسيرات والشرح.ولا تزال تلك العملية مستمرة وقد أعلنت الادارة الأميركية أنها ستحتفظ بحضور عسكري محدود في سورية بعد التوصل الى وقف للنار بين الأكراد وتركيا.ولم يكن انسحاب القوات الأميركية من سورية يهدف الى استيعاب الهجمة التركية بل استجابة لتطورات سريعة حدثت على الأرض، وكانت تهدد بمخاطر حقيقية إذا لم يتم سحب تلك القوات من مناطق القتال بين الأكراد والأتراك.المصالح الأميركية المهددة
ذلك القتال لم يكن ليخدم مصالح الولايات المتحدة بكل تأكيد وخروج تلك القوات سيسمح لها بمعالجة مصالح أميركية اخرى في المنطقة تتمحور حول منع تنظيم داعش من إعادة ترتيب صفوفه، وتحجيم الخطر الإيراني ومنع الهجرة الواسعة للاجئين والتي تهدد بزعزعة الاستقرار في أكثر من مكان.وعلى الرغم من ذلك كله لم تشتمل ردة فعل الرئيس ترامب الأولية على شيء من تلك الهواجس التي حفلت بها الأزمة في سورية، وكانت الحاجة تدعو حقاً الى خطاب رصين من المكتب البيضاوي يشرح الى المواطنين في الولايات المتحدة كيف وصلنا الى الحالة التي نحن فيها الآن، وما الذي يجري في ذلك الجزء من العالم، وما الذي يمكن للرئيس الأميركي أن يقوم به من أجل حماية مصالحنا الحيوية. وهذه خطوات برهن ترامب على أن في وسعه القيام بها ولكنه لم يفعل، والسؤال هو لماذا لم يفعل؟ والجواب يكمن في البيت الأبيض.وعلى المسرح العام توجد صورتان لدونالد ترامب: الأولى هي صورة رجل التظاهر والشخصية المضخمة القادرة على التفاعل مع الكثير من أبناء الشعب الأميركي، وهي التي مكنته من الفوز في الانتخابات، والتي تسمح ببقاء معدلات شعبيته ثابتة على الرغم من كثرة الأخطاء التي يقترفها، والتي أفضت الى هجمات من قبل النقاد ووسائل الاعلام المعادية.الصورة الثانية هي لدونالد ترامب الذي يتصرف بجدية والقائد الذي يتخذ القرارات المهمة والجريئة التي تخدم مصلحة البلاد مثل التوجه نحو خفض الضرائب والإجراءات التنظيمية والتصدي للصين وحماية المصالح الحيوية الأميركية في الخارج، وذلك النوع من القيادة هو الذي ساعده أيضاً على المحافظة على شعبيته.هلسنكي وسورية
ولكن تظهر قمة هلسنكي والأزمة في سورية المشاكل التي تحدث عندما يتمتع الرئيس بشخصيتين مختلفتين، وفي رده على إعلان تركيا أن غزوها لسورية كان يهدف الى ملاحقة الأكراد وإبعاد خطرهم عن تركيا قال الرئيس ترامب إنه غير مهتم بالمشاركة في «حروب من دون نهاية»، وهذا أمر طبيعي وجيد، ثم من سيهتم بذلك الأمر على أي حال؟ وهذه جملة لا معنى لها، وهي مثل العبارات الرئاسية التي شددت على «أميركا أولاً» والتي لا توفر أي معلومات عن سياسة أميركا الخارجية على الرغم من مرور فترة معقولة من عمر الإدارة الحالية.وعندما بعث الرئيس ترامب بأول تغريدة له من مكتبه في البيت الأبيض رداً على إعلان تركيا حول التوغل في سورية ابتهج الكثير من مؤيديه بأمل أن يقدم على الخطوة الصحيحة في هذا المسار المعقد، لكن معظم الأميركيين، والكثير من أصدقائنا وحلفائنا اعتراهم الإرباك بعد أن توضحت خطة عمل الإدارة الأميركية.دونالد ترامب هو رئيس كل الأميركيين وقائد العالم الحر، وفي الأمور التي تنطوي على جوانب جدية للغاية والتي تؤثر علينا كلنا نحن في حاجة الى سماع كلمات ترامب الجاد، وقد سمعناه من قبل، وقدم ترامب الجاد عدة خطابات قوية عندما أعلن انسحاب الولايات المتحدة من اتفاقية إيران النووية، وعندما أعلن أيضاً أن القوات الأميركية ستبقى في أفغانستان، وقدم خطابات قوية ومؤثرة في وارسو وفي منظمة الأمم المتحدة.وهذا درس يتعين على الرئيس ترامب أن يتعلمه ويتذكره، والدول الأخرى ستسعى الى اختبار تصميم الولايات المتحدة، وتحدي مصالحنا وتهديد سلامنا وازدهارنا، ومثل أي رئيس أميركي جيد سيتصدى لهم ويحمي بلادنا، وفي أوقات المتاعب الشديدة يتعين عليه أن يتحدث معنا لا أن يبعث بتغريدات إلينا.