يوم 9 نوفمبر 1989 هو تاريخ لن يتمكن جيلي من نسيانه، وسيظل مرسخا في تاريخ البشرية، ففي ذلك اليوم قبل نحو 30 عاما، سقط جدار برلين، فأظهر انهيار الكتلة السوفياتية أن الشيوعية كانت ستصبح ثاني فشل أيديولوجي كبير في القرن العشرين، بعد زوال الفاشية قبل بضعة عقود، لقد أصبحت الرأسمالية الليبرالية ومؤيدها الرئيسي، الولايات المتحدة (القوة الكبرى)، تتمتع بهيمنة طويلة بلا منازع.

ازدهرت العديد من البلدان في البيئة الجديدة، فعلى سبيل المثال قامت بولندا بتأسيس حكومة غير شيوعية قبل سقوط جدار برلين بفترة وجيزة، وبعد التغلب على بعض مشاكل المرحلة الانتقالية المُبكرة، تحركت بسلاسة نحو الناتو والاتحاد الأوروبي. شهد الاقتصاد البولندي آخر انكماش على مدار عام كامل في عام 1991، وفي عام 2009، عندما تقلص الناتج المحلي الإجمالي لجميع الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي، نما اقتصاد بولندا بنسبة 3٪ تقريبا.

Ad

ومع ذلك، فإننا نعلم اليوم أن عام 1989 لم يمثل نهاية التاريخ، بل فصلا محددا في التاريخ، واليوم تُواجه الديمقراطية الليبرالية الغربية، التي توقع فرانسيس فوكوياما أنها ستتمتع بالسلطة الأبدية بعد عام 1989، تحديا خطيرا على نحو متزايد من القوى غير الليبرالية.

تبين أن فترة الهيمنة الأميركية كانت قصيرة الأجل، أظهرت هجمات 11 سبتمبر 2001 الإرهابية ضد الولايات المتحدة مدى ضعف قوة عظمى أمام الجهات الفاعلة غير الحكومية، بالإضافة إلى ذلك، ساهم انضمام الصين إلى منظمة التجارة العالمية في العام نفسه في تعزيز صعود ذلك البلد. انهارت الهيمنة الأميركية، واعتاد العالم تدريجياً على التحدث بلغة التعددية القطبية.

لقد كسر صعود الصين العديد من الافتراضات السابقة، ففي نوفمبر 1989، بدا الحزب الشيوعي الصيني (CPC) ضعيفا للغاية، كان زعيم الشيوعية الآخر- الاتحاد السوفياتي- يواجه أزمة واضحة بشكل متزايد، في حين كانت الصين لا تزال تُعاني آثار احتجاجات ميدان تيانانمين.

في ضوء هذه الأحداث، قام الحزب الشيوعي الصيني بإغلاق كل الأبواب أمام التحرير السياسي، وفي النهاية، على عكس العديد من التوقعات، لم يؤد انهيار الاتحاد السوفياتي إلى سقوط الحزب الشيوعي الصيني في الصين، ولم تقوض التنمية الاقتصادية للصين نموذجها الاستبدادي، على الأقل حتى الآن. على العكس من ذلك، يُعزز الحزب الشيوعي الصيني سيادته تحت قيادة الرئيس شي جين بينغ، وقد بدأت بعض الحكومات بالنظر إلى نموذج التنمية الاستبدادية في الصين كمصدر إلهام.

لكن السيناريو البديل الذي تقدمه السلطات الصينية يتضمن بعض النقاط الخفية، ففي الآونة الأخيرة، تم الاحتفال بالذكرى السبعين لتأسيس جمهورية الصين الشعبية، والتي تجاوزت بالفعل الاتحاد السوفياتي، ولكن هذا لا يعني أن الصين الشيوعية قد تجاوزت سن السبعين: على الرغم من الخطابات الرسمية، لم تعد الصين تتمتع بتطلعات شيوعية، وينبغي الإشارة إلى أن الازدهار الاقتصادي للبلاد ينبع أساسا من الإصلاحات الافتتاحية التي أصدرها دنغ شياو بينغ في عام 1978. كما يجادل الاقتصادي برانكو ميلانوفيتش في كتابه الذي صدر مؤخراً بعنوان «الرأسمالية وحدها»، يُمثل النموذج الصيني اليوم نوعا مختلفا من الرأسمالية، وليس نظاما اقتصاديا مختلفا تماما. في الوقت الحالي، لا يعرف النظام الرأسمالي أي منافس، لذلك لم يثبت بعد أن توقعات فوكوياما كانت مضللة في هذا الصدد.

إن حقيقة أن الصين الشيوعية اسمياً هي من بين أقوى المدافعين عن العولمة هي إحدى المفارقات العظيمة في عصرنا، ففي الواقع لا يزال انفتاح الصين على العالم الخارجي محدودا نسبيا، ومع ذلك تؤدي الحكومة الصينية دورا قياديا في بعض المنتديات الاقتصادية، ويرجع ذلك إلى حد كبير إلى عدم قيام الآخرين بذلك، وتُعلن القوى الرئيسة التي بذلت العديد من الجهود في السابق لتعزيز التجارة الحرة- الولايات المتحدة والمملكة المتحدة- انسحابها اليوم، وفي هذه الأثناء أصبحت العولمة أكثر شعبية في آسيا منها في الغرب.

يعتقد الكثيرون في الولايات المتحدة وأوروبا أن «الخاسرين» المزعومين بسبب العولمة ساعدوا في جلب شخصيات غير ليبرالية مثل الرئيس الأميركي دونالد ترامب إلى السلطة، لكن الاقتصاد لا يقدم سوى تفسير جزئي لهذا الاتجاه.

يجب أخذ بولندا بعين الاعتبار مرة أخرى، فعلى الرغم من مساهمتها في نجاح المرحلة الانتقالية من الاشتراكية إلى الرأسمالية الليبرالية، وعلى الرغم من تجنب الركود العظيم، فقد تبنت البلاد التوجهات المعادية لليبرالية التي يُجسدها حزب العدالة والقانون. لقد تمكن هذا الحزب- الذي فاز مؤخرا في الانتخابات البرلمانية الثانية على التوالي- من الاستفادة من السخط الاقتصادي بين المواطنين، حيث استغل مخاوف عميقة وأكثر انتشارا بشأن الهوية الوطنية البولندية، ومن المهم أن نتذكر مدى تقييد الحكم الذاتي لبولندا في القرن الماضي، إما قسريا (عن طريق احتلال أو سيطرة القوى الأجنبية) أو طوعا (عن طريق الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي). هذا السجل أدى بالعديد من البولنديين إلى عدم الثقة بالمُثل الدولية والعالمية.

لذلك، بعيدا عن كونهما متناقضتين، تعرف الرأسمالية والليبرالية تقدما مُتساويا على مستوى العالم، ويمكن لتقدم تكنولوجيا المعلومات تعزيز كل منها في آن واحد.

ومنذ اختراع شبكة الويب العالمية (كما حدث في عام 1989)، كان تأثيرها أكثر تضاربا مما كان متوقعا، حيث أثبت الإنترنت أنه لا يعمل دائما على توحيد المجتمعات، لكنه يساعد في كثير من الأحيان في تقسيمها إلى غرف صدى صغيرة، علاوة على ذلك تستكشف بعض الحكومات إمكانات الإنترنت- والموارد ذات الصلة مثل البيانات الضخمة- كأداة للتحكم الاجتماعي، وأكبر مثال على ذلك هو الحزب الشيوعي الصيني، الذي يرغب في القضاء على أي حواجز تتخلل خططه للوصول إلى «التنمية الكاملة» في عام 2049، الذكرى المئوية للجمهورية الشعبية.

في كتابه الذي يحمل عنوان «21 درسا للقرن الحادي والعشرين»، كتب المؤرخ يوفال نوح هراري: «إذا وصف لك أحدهم العالم في منتصف القرن الحادي والعشرين وكان يبدو وكأنه خيال علمي، فمن المحتمل أن يكون غير صحيح»، لكنه أضاف: «إذا وصف لك أحدهم العالم في منتصف القرن الحادي والعشرين ولم يكن يشبه الخيال العلمي فمن المؤكد أنه غير صحيح». بعبارة أخرى، فإن اليقين الوحيد هو التغيير غير المتوقع.

نظرا لأن توقعاتنا عادة ما تكون خاطئة، فمن الأفضل تجنب كل من القدرية والتفاؤل عند النظر إلى المستقبل، فبعد ثلاثين عاما من الآن، يمكننا أن نعيش في عالم تتصادم فيه القوى غير الليبرالية باستمرار، أو يمكن أن يكون عالماً تنتعش فيه القيم مثل الديمقراطية والتعددية. الدرس المستفاد من عام 1989 هو أننا يجب أن نكون متواضعين، لكن هذا لا يعني أنه ينبغي لنا أن نكون سلبيين: أفعالنا اليوم ستترك بلا شك أثراً على عالمنا غدا.