القضاء والسياسة!
إقحام المجلس الأعلى للقضاء نفسه في المعترك السياسي قد يكون بمثابة القشة التي تقصم ظهر البعير في المشهد العام الذي نعيش تخبطاته وهدمه لمعاول الدولة والنهج المنظم لحالة الضياع في عمل المؤسسات الدستورية، كما أن تدخل القضاء في المسائل السياسية خاصة المثيرة للجدل والباعثة لانقسام المجتمع يفتح الباب على مصراعيه لوضع المرفق القضائي برمته في دائرة الاستهداف السياسي والشعبي، في وقت يفترض أن تحافظ هذه السلطة الدستورية على استقلاليتها كملاذ وصمام أمان للمجتمع لا سيما عندما يكون في وضع مضطرب كما نراه اليوم.الرأي الذي أبداه المجلس الأعلى للقضاء حول مدى دستورية إشهار الأحزاب السياسية مستغرب في توقيته وموضوعه، ولكن علامات الاستفهام تتجاوز هذا السقف لتشمل صلاحية المجلس وسلطاته في بحث دستورية القوانين أو التراسل المباشر مع لجنة برلمانية، وطلب التفسير المسبق لمقترح قانون لا يزال في المراحل الأولية دون أي ضمان حتى لمناقشته أو التصويت عليه. من جهة أخرى فإن ازدواجية عضوية أغلبية قضاة المجلس الأعلى مع عضويتهم في الوقت نفسه في المحكمة الدستورية المسؤولة عن سلامة القوانين تثير شبهة تعارض المصالح والوظائف التي تمارسها الهيئات القضائية، وفي المثال الخاص بالرأي في موضوع الأحزاب، حيث أبدى السادة القضاة رأيهم مسبقاً في المجلس الأعلى، فلا يجوز وفق أبسط القواعد القضائية أن يفصلوا في المسألة ذاتها إذا ما عرضت على المحكمة الدستورية وغالبيتهم أعضاء فيها. هذه ليست المرة الأولى التي يقحم القضاء نفسه في القضايا السياسية، فقد سبق أن أبدت المحكمة الدستورية رأيها السياسي وبتفاصيل بعيدة المدى في نظام الصوت الواحد بلا أي مبررات قانونية، وألغت مرسوم إنشاء الهيئة المستقلة للانتخابات التي تعد من أهم متطلبات الشفافية والحيادية والنزاهة في الانتخابات العامة، كما يعيش المشهد السياسي فترة عصيبة من التضييق على الحريات العامة وحرية إبداء الرأي الفردي، وتزامن ذلك مع صدور أحكام قضائية غير مسبوقة في قساوتها وآمادها الطويلة بهذا الشأن، وأخيراً فقد تعطلت الكثير من القوانين المقترحة بشأن تنظيم القضاء أو إعادة تشكيل المحكمة الدستورية أو مخاصمة القضاة على أبواب المرفق القضائي نفسه، الأمر الذي يعوق تطوير وتحديث السلطة القضائية وإجراءاتها وأدواتها، ويكسبها المزيد من الاستقلالية والثبات. لم يعد ما نعول عليه بعد الاختلالات الجسيمة في بناء السلطة التنفيذية وعجزها عن إدارة شؤون البلد، كما فقدت السلطة التشريعية مصداقيتها وثقة الناس بأدائها والفضائح التي تلاحقها بكل الصور والأشكال، فلسنا بحاجة لأن تكتمل المصيبة عندما تبدأ الألسن بلعق السلطة القضائية أيضاً!