احتفى مركز الشيخ جابر الأحمد الثقافي بكوكب الشرق أم كلثوم، على مدار ثلاثة أيام، من خلال ثلاث حفلات تحت عنوان "ليلة الأطلال"، تصدت لها مطربة دار الأوبرا المصرية مي فاروق، بمعية فرقة موسيقية بقيادة المايسترو عماد عاشور، وذلك على المسرح الوطني أمام حضور جماهيري كبير وقف طويلاً في ختام الحفلات احتراماً وتقديراً للجهد المبذول فيها.وعلى مدى ثلاث ليال، من 23 إلى 25 الجاري، احتفى المركز بأم كلثوم بصورة غير مسبوقة، وذلك بعد النجاح الباهر الذي حققه المركز في حفلات "كلثوميات" خلال المواسم السابقة، غير أن ما يميز هذه الأمسيات هو الرؤية المغايرة لما كان يقدم في الحفلات التقليدية السابقة.
الشكل الكلاسيكي
وانقسم الحفل الذي استمر ساعتين تقريباً إلى جزأين، في الجزء الأول، استمتع الحضور بالشكل الكلاسيكي للحفلات الغنائية، وبالبساطة والأصالة التي طبعت تلك السهرات، إذ كانت الأولويةُ للمطربة وفرقتها الموسيقية، ولما يُقدَّم من غناء، حيث كانت المطربة تغني على مسافة قريبة من الجمهور.أما الجزء الثاني، فقد اختير ليكون أكثر ألَقاً وفخامة، إذ تمت الاستعانة بأحدث تقنيات المسرح وإمكاناته البصرية، واستمتع الجمهور بقصيدة "الأطلال"، التي تحولت أبياتها على خشبة المسرح إلى مشاهد تُترجِم جمال القصيدة ومعانيها.حضور كبير
وكانت الساعة قد تجاوزت السابعة من مساء الخميس الماضي عندما بدأ الجمهور التوافد على مركز الشيخ جابر، بحضور كبير من مختلف الأعمار والجنسيات، جمعهم حب الفن، والشوق إلى الطرب الأصيل، حيث عذوبة اللحن وجمال المفردة التي شكلت أغنيات مازالت راسخة في الوجدان حتى يومنا هذا. وكانت الأمسية أقرب إلى إحدى حفلات كوكب الشرق خلال ستينيات القرن الماضي من حيث عدد الجمهور وتنوع خلفياتهم الثقافية، والمسرح الذي اتخذ شكلاً كلاسيكياً وإضاءة ثابتة، وكل شيء كان ينبئ بأننا أمام تجربة مختلفة على صعيد الشكل والمضمون.وكعادة إدارة مركز الشيخ جابر استقبلنا المنظمون بكتاب يختزل أهم المعلومات عن برنامج الحفل، ثم توجهوا بنا إلى مقاعدنا، وما هي إلا دقائق حتى شارف المسرح على الامتلاء، ليدخل أعضاء الفرقة الموسيقية تباعاً، بزي موحد كلاسيكي الشكل، أسود اللون وجلسوا في صفين بينهم مقعد واحد لافت للتنظر وبدا أنه يخص المطربة، ومع غياب المايسترو بشكله التقليدي المفترض أن يقف أمام الفرقة يلوح بعصاه موجها العازفين، كان الأمر مماثلاً لحفلات كوكب الشرق، حيث يجلس العازفون وراء المطربة من دون نوتات موسيقية أو مايسترو يقف أمامهم، فقد اكتفى المايسترو عماد عاشور في هذا المساء بقيادة الفرقة التي تألفت من 25 عازفا من وراء الكواليس.وفي الثامنة مساء غرق المسرح في ظلام دامس باستثناء تلك الإضاءة التي سلطت على أعضاء الفرقة، حيث بدأوا عزف مقدمة أغنية "أنا في انتظارك"، لتدخل المطربة مي فارق ويستقبلها الجمهور بتحية كبيرة، قبل أن تشرع في غناء واحدة من أبرز أعمال كوكب الشرق أم كلثوم بل وأقدمها أيضاً، إذ قدمت الفنانة المصرية الراحلة تلك الأغنية للمرة الأولى عام 1944 وهي من كلمات بيرم التونسي وألحان زكريا أحمد.المطرب الحقيقي
وفي هذا المساء، وقفت مي بثبات وثقة تشدو والابتسامة على محياها، وبدت هادئة متزنة ملَأَ صوتها القلوب قبل الآذان، وهنا الرهان الذي يكسبه المطرب الحقيقي مرهف الحس أن يتخطى صوته السمع ويصل إلى أعماق القلوب ليسترجع الذكرى تلو الأخرى، ومي بنت دار الأوبرا المصرية التي كانت أول من افتتح حفلات "كلثوميات" في مركز الشيخ جابر في مارس 2017، حملت بصوتها إرث أم كلثوم واستطاعت أن تنقله بمهارة وحس مرهف وقدرة على التلون، لتستحق عبارات الإشادة التي أمطرها الجمهور بها في نهاية أغنية "أنا في انتظارك"، قبل أن تغادر المسرح وقد اكتسبت دفعة معنوية قوية.«أمل حياتي»
وما هي إلا دقائق حتى عادت مي مجدداً لتواجه الجمهور، وتبدأ رحلة جديدة من الإبداع مع أغنية "أمل حياتي"، وهي ثمرة تعاون الشاعر أحمد شفيق كامل وموسيقار الأجيال محمد عبدالوهاب عام 1965، وتنتمي إلى مقام "كرد"، ورغم صعوبة اللحن فإن مي أثبتت حضوراً لافتاً، وصالت وجالت بصوتها الذي ملأ فضاء المسرح فكانت تكفي التفاتتها يميناً ويساراً ليدرك الحضور مدى الانسجام بينهم، حيث انتشى طرباً بصوت الفنانة المصرية، والبعض يتمايل برأسه، والآخر يرتفع صوته بالغناء ليستعيد الذكريات على وقع أنغام الأغنية، وفي النهاية ارتفعت الأيادي تلوح بالتحية لمي على ما قدمته في ختام وصلتها الأولى.الجزء الثاني
وبعد استراحة قصيرة، رفع الستار مجدداً عن مشهد خطف الأنظار، ليتحقق تكامل الصوت والصورة، إذ قسم المسرح إلى مستويات عدة وسط ديكورات ضخمة توحي للجمهور أنهما أمام جزء من معبد فرعوني قديم بينما جلس العازفون في أماكن متفرقة، كل مع آلته، لتبدأ الفرقة عزف المقدمة الموسيقية لواحدة من روائع كوكب الشرق أم كلثوم، وهي "الأطلال"، ثمرة تعاون الشاعر إبراهيم ناجي والموسيقار رياض السنباطي، وتنتمي الأغنية إلى مقام "هزام"، وما هي إلا دقيقة حتى أضاء أحد جوانب المسرح، لتنزل المطربة مي فاروق المدرجات وتواجه الجمهور وتبدأ الغناء، ولا أبالغ عندما أقول إنها وصلت إلى قمة تألقها في هذا المساء مع "الأطلال"، لتكشف عن معدنها الأصيل، فالمطرب المتمكن كلما مضى الوقت زادت ثقته بنفسه، واستمد من الجمهور طاقة أكبر ليقدم المزيد، وهكذا كان الحال مع مي، التي ظهرت وكأنها تفتتح الحفل، وبدا عنفوان صوتها في أجزاء عدة من "الأطلال" لاسيما تلك التي تتطلب توظيف طبقات الصوت الأعلى، ولم يقف الأمر عند حد جمال الصوت بل كان لإمكانات المسرح الوطني الكبيرة دور مهم في تقديم "الاطلال"، بصورة غير تقليدية عندما تغيرت اللوحات التي رسمتها الإضاءة على جدران ديكورات المعبد، بين مقاطع الأغنية المختلفة لتجسد المعاني السامية من خلال صور جمالية خطفت الأبصار في مشهد سوف يظل عالقاً في أذهان كل من حضر الحفل لسنوات مقبلة، وربما لن يتكرر مجدداً في المستقبل، إلا إذا أعاد مركز جابر الثقافي الاحتفاء بكوكب الشرق مرة أخرى في ليالي مقبلة من "الأطلال".أغنية في ديوانين
جُمعت قصيدةُ الأطلال، وهي أروعُ ما غنت كوكبُ الشرق في حقبة الستينيات، من ديوانين مختلفين للشاعر إبراهيم ناجي؛ فبعضُ أبياتها من قصيدة الأطلال من ديوان "ليالي القاهرة"، وبعضُها الآخر من قصيدة "الوداع" من ديوان "وراء الغمام".ويُروى أن الشاعر ناجي كان يتمنى أن تغني له أم كلثوم "الأطلال" منذ كتبها في الأربعينيات، ولم تصبح هذه الأمنية حقيقة إلا في مطلع الستينيات، حينما عمد رياض السنباطي إلى دمج أبيات القصيدتين في واحدةٍ وتلحينها بعد وفاة شاعرها بنحو 13 عاماً.يُذكَر أن هذه الأغنية ظلت حبيسة الأدراج على مدى عامين قبل أن تغنيها أم كلثوم في عام 1966، وذلك بسبب نشوب خلاف بينها وبين ملحِّنها، عندما اعترضت أم كلثوم على لحنِ المقطع الأخير منها، فأصر السنباطي على رأيه، وغضب وقاطع أم كلثوم، غير أن القطيعة لم تدُم طويلًا – على نقيض ما حدث مع شيخ الملحنين زكريا أحمد - وتوصل الاثنان إلى اتفاق أن تجرب القفلة التي اختارها السنباطي في الحفلة الأولى، فإذا أعجبت الجمهور أبقاها كما هي، وإذا لم تُعجبه فسيكون عليه أن يُغيِّرها وفقاً لما تريده أم كلثوم.وحدث ما أراد السنباطي، فأُعجب المستمعون بالنهاية الموسيقية التي وضعها لمقطع "يا حبيبي... كلُّ شيءٍ بقضاء" حتى نهايته بــ "لا تقُلْ شئنا... فإن الحظَ شاء" التي تغنيها أم كلثوم بأسلوب الجواب.