كرة القدم والقانون
كأننا نقف أمام الحياة بكل ما فيها من صراع يراه الكثيرون هو الأصل. وكأننا نشاهد دورة كاملة من الحياة تبدأ وتنتهي أمام أعيننا، لا كما يحدث في الواقع من غياب النهايات أو غموضها عادة. هكذا تتحول مباريات كرة القدم إلى ساحة تختصر الحياة، وتشعرنا، وإن بصورة موهمة، بأننا نعرفها ونسيطر على مجرياتها. ما سبق لا يتناقض مع فكرة المتعة والتعويض التي يمارسها المشاهد؛ المتعة بسبب الفنيات التي أصبح لها كتالوج عالمي زرعه ملايين البشر في وعيهم، فأصبحنا نطرب لمهارات ميسي، وانطلاقات رونالدو، ومفاجآت محمد صلاح. والتعويض يحدث بصورة خفية خبيثة، فنحن نشاهد الرياضة بدل أن نمارسها، ولعل هذا يخفف قليلا من الضغط على الضمير المتألم من الكسل البدني الذي يفرضه علينا العصر الحديث بانشغالاته وأدواته.لكن هناك سببا آخر أحسبه يكمن وراء سحر كرة القدم، وخاصة في ثقافات العالم الثالث، وأقصد به فكرة القانون الأعمى، الذي لا يفرِّق بين وزير وخفير. الأمر يبدو بعيدا، لكنه معقول جدا، فمَن منا لا يطرب ويسعد حين يأخذ كل شخص حقه؟ ومَن منا لا يحب أن تتم معاقبة المجرم، خصوصا إذا لم يكن هو هذا المجرم؟ هنا تتشابه مباريات كرة القدم مع أفلام الإثارة ذات الحبكة المُحكمة، ففي كليهما يكون العقاب فوريا والثواب فوريا، كما لا يعترف القانون بالنجم أو المغمور من اللاعبين. ولكرة القدم قوانين يتم تطبيقها جميعا في مساحة محدودة من الزمن، بحيث ينال المخطئ جزاءه بلا تأخير، ويتنوع الجزاء بتنوع شدة الخطأ ومكان حدوثه، من خطأ عادي إلى واحد يستوجب إنذارا، وربما الطرد، نهاية بضربة الجزاء حين يكون الخطأ في منطقة قريبة من المرمى.
المتفرج يشاهد ويعرف القوانين جميعا، ثم يتقمص روح الحكم أحيانا، وهو ما يبرر صيحات المطالبة باحتساب خطأ أو إخراج الكارت الأصفر أو الأحمر، وروح المدير الفني أحيانا أخرى، فينادي بتغيير لاعب يراه غير مجيد، أو تعديل في مواقع بعض اللاعبين وفق ما يرى المتفرج/المدير الفني. وأحيانا يتقمص المتفرج روح اللاعب، لتنطلق صيحات تنادي بلعب الكرة بطريقة مختلفة عمَّا قام به اللاعب، أو تمرير الكرة باتجاه يختلف عما حدث. المباراة تجسيد لحياة مكتملة يمكن للمتفرج فيها أن يهرب من ترهلات عالمه بكل ما يحمله من قصور، وخاصة في تطبيق القانون الذي يوقع الجزاء بالمسيء ويثيب المحسن. تمنحنا المباراة حين تكون متقنة في كل عناصرها (اللعب والتحكيم والإدارة الفنية) فرصة إشباع فكرة المساواة وتحقيق العدل، فنخرج بعدها كمن أخذ دورة في التكيف مع القانون لمدة تسعين دقيقة. إن كانت المباراة نزيهة تحكيميا، فسوف ترتبط نشوة الفائز بفكرة الاستحقاق، وترتبط خيبة المهزوم بفكرة الاستحقاق أيضا، وكذلك بضرورة احترام القانون. تتحول مباريات كرة القدم إلى ممارسة شفافة تعكس مستوى إيمان ثقافة معينة بالقانون، أو استخفافها به، ولعل هذا ما يفسِّر لك أيها القارئ الكريم لماذا يحدث الاعتداء على الحكام معظمه، إن لم يكن كله، في دول العالم الثالث التي لا يحتل فيها القانون موقعا محترما في وعي الناس. ما سبق لا ينفي أن مباريات كرة القدم تدعم على النقيض فكرة التحايل والادعاء ومحاولة التهرب من القانون، وهو ما أفضِّل تناوله في مقال مستقل.