منذ أكثر من عقد من الزمن، يعيش قطاع غزة تحت الحصار ويُعزى ذلك في المقام الأول إلى الاستيلاء العنيف من «حماس» على القطاع واستمرار الرفض لحكامها المتطرفين في غزة، وحتى بعد تخفيف بعض القيود في أعقاب حرب غزة عام 2014، حافظت إسرائيل ومصر على قيود مشددة على دخول البضائع إلى هذا الجيب الساحلي، وبدأت هذه السياسة تتلاشى في أوائل عام 2018 مع تدهور الأوضاع داخل القطاع، وبلغت ذروتها في المظاهرات الحدودية «مسيرة العودة الكبرى» وجولات التصعيد القصيرة الأمد بين إسرائيل و»حماس».ومنذ ذلك الحين، أدّت المفاوضات غير المباشرة حول هدنة طويلة الأمد إلى التخفيف من حدة الحصار، لكن الوقع الذي خلفّه أحد أكثر التنازلات الجديرة بالملاحظة لم يلقَ الاهتمام الكافي؛ ألا وهو فتح المعبر الحدودي التجاري المعروف بـ«بوابة صلاح الدين» بين غزة ومصر في عام 2018، فهذا المعبر يدحض الأقاويل عن «محاصرة» غزة، ولكنه يثير أيضاً تساؤلات حول سياسة الحصار الإسرائيلية المستمرة ومزاعم «حماس» بأنها هيئة حاكمة مسؤولة.
العنف والسياسة يولدان عمليات الإغلاق
منذ سنوات تواجه مصر وإسرائيل المعضلة نفسها في غزة من ناحية السياسات، وهي كيفية احتواء «حماس» وفي الوقت نفسه تجنب انهيار الوضع الإنساني، وفي السابق، كان لدى إسرائيل خمسة معابر حدودية عاملة مع غزة، بقيت مفتوحة حتى بعد انقلاب «حماس» على السلطة الفلسطينية عام 2007، وإن كان ذلك على أساس محدود، ولكن بحلول عام 2011، أدت الهجمات المستمرة على المعابر وتقلّص الحاجة إلى نقاط عبور متعددة إلى إغلاق جميع المعابر باستثناء «معبر إيريز» (بيت حانون) للمشاة و «معبر كيرم (كيريم) شالوم» (كرم أبو سالم) لحركة المرور التجارية.في فبراير 2018، قامت مصر بدون أي دعاية فعلية بفتح معبر حدودي تجاري جديد مع غزة يدعى «بوابة صلاح الدين». ويقع هذا المعبر على بُعد أربعة كيلومترات شمال غرب رفح، ويستمد اسمه من «طريق صلاح الدين» الذي يُعتبر الشريان الرئيس الذي يربط شمال القطاع بجنوبه، وكان هذا المعبر قائماً في السابق كنقطة دخول إنسانية للسكان المقيمين على جانبي الحدود بين غزة وسيناء ولكن ليس كمعبر تجاري.إن توقيت هذه الخطوة لم يكن على الأرجح من قبيل المصادفة، فاتفاق المصالحة الذي تم التوصل إليه بوساطة مصرية بين «حماس» و«فتح» قبل أربعة أشهر أخذ يتزعزع بالفعل، في حين كان رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس قطع مرة أخرى الإعانات عن غزة، مما أغضب القاهرة على الأرجح. وفي الوقت نفسه، قطعت «حماس» علاقاتها مع عناصر تنظيم «الدولة الإسلامية» في سيناء كجزء من التفاهمات الجديدة التي تم التوصل إليها مع مصر، في حين ساءت الظروف الإنسانية في غزة إلى درجة أن إسرائيل نفسها بدأت تخفيف قيود معينة.واليوم يُقال إن قوى «حماس» الأمنية موجودة عند «بوابة صلاح الدين»، وهناك سرية واحدة على الأقل تابعة لـ«كتائب القسام»- الجناح العسكري للحركة- مسؤولة عن إدارة جانب المعبر الواقع داخل غزة، في حين تتولى سرية فرعية تابعة للجيش المصري هذه المهمة في الجهة المقابلة. ويُفتح المعبر ما بين عشرة وخمسة عشر يوماً في الشهر، وتدخل عن طريقه نحو 1000 شاحنة شهرياً إلى غزة، بنقلها مواد مختلفة من الإسمنت ووقود الديزل والسجائر إلى حفاضات الأطفال والمعكرونة سريعة التحضير وغيرها من السلع المنزلية.وفقاً للأرقام الرسمية الصادرة عن وزارة الاقتصاد في غزة التي تديرها «حماس»، تم استيراد ما يقرب من 6000 طن من الإسمنت شهرياً وستة ملايين لتر من وقود الديزل شهرياً إلى غزة عن طريق «بوابة صلاح الدين» في النصف الأول من عام 2019. وخلال الفترة نفسها، أفاد تلفزيون «كان» الإسرائيلي، أن 16 شاحنة تحمل 82000 هاتف محمول عبرت إلى غزة، إلى جانب اثنتي عشرة شاحنة تحمل 150 طناً من صلصة الطماطم.وتجني «حماس» ومصر إيرادات كبيرة من خلال فرضهما ضريبة على هذا الطريق التجاري الجديد، وتشير التقديرات التقريبية الواردة في وسائل الإعلام الإسرائيلية إلى أن أرباح «حماس» تصل إلى عشرات ملايين الشيكلات شهرياً، أو عدة مئات من ملايين الشيكلات سنوياً.رغم أنه من شبه المؤكد أن «بوابة صلاح الدين» تطلبت موافقة إسرائيل الضمنية قبل فتحها، فإنه من غير الواضح ما إذا كان الجيش المصري يضطلع بأي دور إشرافي فعلي هناك، ويقيناً، أن كمية التجارة التي تمر عبر هذا المعبر لا تتعدى 10 في المئة من تلك التي تجري عبر «معبر كرم أبو سالم»، ومع ذلك، لا تكمن الأهمية الأمنية لـ»بوابة صلاح الدين» في حجم التجارة بقدر ما تكمن في نوع المواد المستوردة.على سبيل المثال، نظراً للحالات العديدة التي قامت بها «حماس» والتنظيمات القتالية الأخرى ببناء شبكات أنفاق تحت الأرض وصولاً إلى الداخل الإسرائيلي، أصبح استيراد الإسمنت خاضعاً لتنظيمٍ صارم، وتم وضع نظام مفصّل بقيادة الأمم المتحدة يسمّى «آلية إعادة إعمار غزة» من أجل مراقبة أوجه الاستخدام النهائي لكل كيسٍ من الإسمنت. ويجب على المستوردين والمقاولين طلب الحصول على التراخيص والتصريح عن أوجه استعمال الإسمنت والكمية المطلوبة منه، ثم تقوم إسرائيل والسلطة الفلسطينية بدراسة هذه الطلبات. وحين تدخل الأكياس إلى غزة، تحرص الكاميرات الأمنية ومفتشو الأمم المتحدة على وصولها إلى المشروع التي خُصصت لأجله، وكل من ينتهك هذه القواعد معرّض للاستبعاد الكامل عن البرنامج.ومع ذلك، فوفقاً لتقرير صادر عن «بلومبرغ» في أغسطس، لا يحتوي الاسمنت الذي يتم نقله من مصنع مصري مملوك للجيش عبر «بوابة صلاح الدين» الى غزة، على أي من هذه الأساليب الوقائية، وتشير البيانات المتوافرة أيضاً إلى أن العناصر الأخرى التي تعتبرها إسرائيل ذات «استخدام مزدوج» يتم إرسالها عبر المعبر، من بينها مضخات المياه والأنابيب والمعادن الأخرى. بالإضافة إلى ذلك، أفاد تلفزيون «كان «أنه تم إرسال أكثر من 25000 إطار إلى غزة في النصف الأول من عام 2019، رغم الحظر الذي فرضته إسرائيل في أعقاب استخدام الإطارات المحترقة لخلق ستائر دخانية خلال الاشتباكات الأسبوعية على الحدود.أهمية أوسع لـ«بوابة صلاح الدين»
بصرف النظر عن الواقع المعقد المتمثل في إمكانية استخدام المواد التي تمر عبر «بوابة صلاح الدين» لدعم أهداف المقاتلين في غزة وتحسين الظروف الاقتصادية لشريحة أوسع من السكان على حد سواء، ليس من المبالغ القول إن المنافع المالية التي يعود بها المعبر على «حماس» كبيرة. وحتى التقدير المحافظ الذي أفاد عنه المبعوث القطري- والبالغ 12 مليون دولار شهرياً- لا يخلو من الأهمية عند وضعه في السياق الصحيح.على سبيل المثال، تبلغ حزمة الإغاثة القطرية الأخيرة لغزة 30 مليون دولار شهرياً، ولكن تم توزيع 10 ملايين دولار فقط من هذا المبلغ كمساعدات نقدية للأسر المحتاجة، وتُستخدم 10 ملايين دولار أخرى لدفع واردات الوقود من إسرائيل لمحطة كهرباء غزة. وأفادت بعض التقارير أن «حماس» طالبت بزيادة المدفوعات في الأشهر الأخيرة لعدة أسباب منها دفع رواتب موظفيها - وهي مسألة حساسة للغاية نظراً لتنامي الانتقادات الشعبية لحكم «حماس» في القطاع. ومع ذلك، ففي ضوء الأزمات الإنسانية والمالية المستمرة في غزة، يجب طرح السؤال التالي: ما الذي تفعله «حماس» بالأموال والوقود التي تلقتها عبر «بوابة صلاح الدين» منذ العام الماضي؟وبالنسبة لإسرائيل، فإن المعبر مرتبط ارتباطاً وثيقاً بمسألة السياسة المتعلقة بمواصلة الحصار على غزة، وقد خففت إسرائيل القيود بشكل كبير منذ العام الماضي، وسمحت بتحويل الأموال القطرية ومنحت أيضاً تصاريح خروج إضافية لبضعة آلاف عامل، وزادت كمية البضائع التي يمكن تصديرها من غزة، وسمحت لإصلاحات البنية التحتية الأوسع بالمضي قدماً، كما أفادت بعض التقارير أنها خفضت عدد الواردات المحظورة ذات الاستخدام المزدوج بنسبة 30 في المائة. وبما أن مثل هذه المواد ذات الاستخدام المزدوج قد تدخل غزة بأي شكل عبر «معبر صلاح الدين»، فإن هذا الأمر يشدد على الحاجة إلى إعادة النظر في هذه السياسات على نطاق أوسع. واستناداً إلى الوضع الحالي، تسببت سوق التجارة الرمادية المصرية بالضرر للشركات التي تلتزم بالأنظمة الإسرائيلية المتعلقة بالإسمنت ومواد أخرى. من هنا، ينبغي على واشنطن والجهات الفاعلة الأخرى حث القاهرة على ممارسة مراقبة أكثر صرامة على حدودها.وبغض النظر عمّا يحلّ بـ«بوابة صلاح الدين»، لن يتوقف اعتماد غزة على إسرائيل للحصول على الرعاية الأساسية والمقومات اللازمة للصمود، بل إن المعبر يبرز ببساطة المعضلة التي ظل صانعو السياسات الإسرائيليين يتصارعون معها لأكثر من عشر سنوات، وهي كيفية منع انهيار القطاع دون تقوية «حماس» وغيرها من جماعات الرفض عسكرياً. وسوف يتحتم عليهم إيجاد حل لهذه السياسة الإشكالية في وقت قريب، ولو كان ذلك لمجرد منع اندلاع حرب أخرى مع غزة.