مرة أخرى عن انهيار القيم
نستمع في كل يوم تقريبا للتذمر من تراجع، بل انهيار، منظومة القيم في بلادنا، وتراجع القيم الإيجابية أمام "السلوكيات السلبية"، ومع أن هذا التراجع يعتبر أمرا سيئا لكنه محتمل في مجتمعات عادية، لكنه يصبح كارثيا في وضع شعب يكافح من أجل حريته، ولإنهاء الاحتلال، ومنظومة التمييز العنصري التي يتعرض لها.هناك عوامل عالمية تسهم في هذا التحول، ومنها هيمنة منظومة "الرأسمالية المتوحشة والنيوليبرالية" المعولمة، وتراجع العالم بعد انتهاء الحرب الباردة إلى أنماط القرن التاسع عشر في العلاقات الدولية، بما في ذلك جعل الربح المادي والمالي هو العنصر المقرر الأساس للسياسات الاقتصادية والاجتماعية، ويشمل ذلك مجالات إنسانية بالغة الحيوية كالخدمات الصحية والتعليم، مما أدى لتدهور نوعيتها في كثير من البلدان، وتدفع سيطرة مفهوم الربح المالي كأساس للعلاقات الناس نحو الأنانية الفردية على حساب التفكير بمصلحة المجتمع الجماعية.ويُخل ذلك بصورة غير مسبوقة بمبدأ التوازن بين المصالح الفردية والجماعية، ويسهم في تدمير الطبقة الوسطى، ويقسم كل مجتمع إلى أقلية فاحشة الثراء، وغالبية تكد وتجاهد كل يوم لجني قوت يومها وتدبير معيشتها.
ولا تكتفي الرأسمالية المتوحشة، التي يمثل ترامب ونتنياهو وسياساتهما صورتها الفجة، بتكريس الاستقطاب في المجتمعات وتبريره، بل دفعت العالم بكل شعوبه إلى أنماط استهلاكية مفرطة بهدف تحقيق النمو وزيادة الربح للأغنياء، دون الاهتمام بما يخلقه ذلك من ضغط على الفئات الشعبية التي تجد نفسها أسيرة دائرة مغلقة لا فكاك منها من الأنماط الاستهلاكية، وتلهث على مدار الساعة لتغطية نفقاتها، وإن كان لدى أحد شك فيما كُتب، فليسأل نفسه عن عدد الهواتف المتنقلة والمتطورة في بيته، وفي أي سن يبدأ الأطفال باقتنائها، وهل يمثل ذلك كله تقدما في رفاهية العائلة وظروف معيشتها أم عبئا مبالغ فيه؟وأحد الأمثلة على اختلال التوازن في بلادنا يكمن في حقيقة أن المرض هو من أهم أسباب الفقر في فلسطين، لأن المواطنين يدفعون نحو نصف نفقات العلاج إن حصل المرض من جيوبهم، لغياب التغطية الصحية الشاملة، وتعاظم الاندفاع نحو الطب الرأسمالي الخاص والمكلف، دون أن يقدم ذلك بالضرورة تطورا نوعيا في مستوى الصحة العامة.ولعل أحد أهم المصائب الاقتصادية التي حلت بفلسطين والتي خُطط لها بشكل مقصود، منظومة القروض البنكية المسهلة جدا للأنشطة الاستهلاكية، والمعقدة جدا للمشاريع الإنتاجية.منظومة القروض أدت إلى توسع مذهل في الأنماط الاستهلاكية وإلى عملية تفكك خطيرة، وتسريح للفكر والنشاط الجماعي، والانتماء والتنظيم الوطني الجماعي بحكم انشغال الناس بهموم تسديد قروضهم، التي أصبحت فعليا سجونا ونمطا للاستعباد المالي، ولا يوجد ما هو أغرب وأبشع، من أن يسعى الإنسان بنفسه إلى أن يصبح عبدا للقروض المرهقة. ومن المهم ملاحظة كيف تدفع الديون للبنوك ومؤسسات الإقراض، بالإضافة الى البطالة، الكثيرين نحو سوق العمالة في إسرائيل والمستعمرات الاستيطانية حيث يتعرضون لاستغلال قومي واقتصادي مزدوج، وما ينطبق على الإنسان ينطبق على الدول والشعوب التي صارت مقيدة بالديون وفوائدها المرهقة.وتمثل ثورة التكنولوجيا الرقمية في وسائل الاتصال الاجتماعي سلاحا ذا حدين، فهي تتيح من جانب فضاءً واسعا لحرية الرأي والتعبير، والحصول على المعلومات، لكنها تعمق من ناحية أخرى الفردية والفردانية والذاتية، وتحصر الكثيرين في العالم الافتراضي، وتفكك العلاقات الاجتماعية حتى داخل العائلات، وهذا هو التحدي الكبير الذي يواجه العمل الوطني، والكفاح من أجل الحرية، كما يواجه الحاجة للتنظيم المجتمعي للمطالبة بالحقوق الاجتماعية والاقتصادية.ولا يمكن مواجهة هذا التحدي إلا باعتماد سلاحين: سياسات اقتصادية واجتماعية تركز على دعم صمود الفلسطينيين وبقائهم، وتكافلهم، في مواجهة مخاطر تقسيمهم وتهجيرهم، ونشاط سياسي واجتماعي توعوي شامل بين الأجيال الشابة، وخاصة طلاب وطالبات المدارس.بعض الناس يفرطون في جلد الذات، ويركزون على الجانب الذاتي للأمور فقط، لتفسير التراجع المريع في القيم، دون أن يروا العوامل الموضوعية التي تدفع في ذلك الاتجاه، ولا حل لذلك سوى إيجاد التوازن بين فهم العوامل الموضوعية، والفرص التي يمكن أن يوفرها الجهد الذاتي، الفردي والجماعي، في مواجهتها.قوة الرأسمالية المتوحشة لا تكمن في شراستها فقط، بل في سيطرتها على منظومة العولمة الاقتصادية، وفي مقابلها تنشأ حركة مقاومة وتمرد عالمية على ما خلقته، وما تسببه من استغلال واستبداد اقتصادي، واجتماعي، وسياسي.هناك دون شك رابط بين مظاهرات وانتفاضات الاحتجاح في فرنسا، وتشيلي، والأرجنتين، ومثيلاتها في لبنان والجزائر، والعراق، والسودان، وبين نضالنا ضد الاضطهاد القومي والاقتصادي، ومن واجبنا أن نرى نضالنا في إطار الحراك العالمي للشعوب المكافحة من أجل الحرية والعدالة.* الأمين العام لحركة المبادرة الوطنية الفلسطينية