حكاية من جدة!
قرأتُ مذكرات الأديب عبدالفتاح أبومدين، الذي كان يرأس نادي أدباء جدة، وله العديد من المؤلفات الأدبية والنقدية، وهذا الأديب يُعد واحداً من كبار الأدباء في المملكة العربية السعودية، والذي قدَّم مذكراته الناقد الدكتور عبدالله الغذامي، حيث قال: "هناك قصة لفتى يافع كان يقف على ميناء جدة مع والدته ليضع نفسه بين يدي خاله وكأنه يقفز فاراً من بحر الظلمات إلى عتبات الأرض المقدسة".قادتني كلمات الغذامي لأُبحر مع مذكرات هذا الطفل الليبي، الذي يصف سنوات حياته الأولى في بلاده، ليتبين لي أنها لا تختلف كثيراً عن حياة "كويت ما قبل النفط"، حيث جاء فيها على وصف مفرداتٍ تكاد تكون متطابقةً مع حياتنا في ذلك الزمن.***
• مولدي كان في مدينة بنغازي، واسمي وكنيتي مفتاح بن أمحمد بن عبدالله أبومدين، وحين جئت إلى الحجاز مع والدتي سماني خالي عبدالفتاح، وأبعدت أنا (الألف) ليصبح اسم أبي محمداً. كان والدي فقيراً يقطع الحطب ليبيعه بالكيلو، كي يطهو الناس به طعامهم، وكان يعيل أسرة مكونة من خمسة أفراد.لا يتسع المجال لوصف حياتنا في هذا الفقر المدقع، فماء الشرب في بيتنا كان يأتي به ساقٍ من خلال برميل محمول تجره دابةٌ فيملأ برمةً من الفخار بماءٍ عذبٍ... بيوتنا كلها تقريباً مبنية من طين وحجارة، وسقفها من خشبِ ألواحٍ، تحدد حجم عرض الغرفة، وعند الصيف ننام تحت السماء... كان لي أخوان أسن مني من أبي، وكل منهما له بيته وحياته الخاصة، ولم يحصلا على شيء من التعليم. • أما الاستحمام في بيوتنا فغالباً ما يتم في "طشت" كبير على أرضية غرفة النوم، بعد استخراج حصيرها، ويُسخن الماء على نار حطبٍ في قدر الطبيخ، ثم بقية الوسائل الأولية من ليفة وصابون وماءٍ بارد، وأحياناً كرسي صغير من الخشب يوضع في الطشت، ومع هذا فإن عملية الاستحمام كانت نادرة، اللهم إلا في فصل الصيف، وربما وقف إنسان وسط الحوش، وأفرغ على جسمه سطل ماء من البئر، أو في دورة المياه البدائية، والتي على بابها ستارةٌ عبارة عن كيس خيش.***• الكثير من صور هذه المفردات التي ذكرها الأستاذ أبومدين في مذكراته عن مدينة بنغازي عادت بذاكرتي إلى بيتنا في المرقاب، وفريج البلوش، وحي الصوابر، وليس هذا فحسب، فمسيرة حياة طفولته البائسة لا تختلف كثيراً عن طفولتي، حيث وجد نفسه يبرز إلى العمل وهو في سنواته الأولى... ويشير إلى أهل الخير الذين كانوا يتصدقون على الفقراء فيقول: "يُقدم لنا الطعام، وهو أرز ولحم، فأصيب منه ما أشبع، لأن اللحم لا يدخل بيتنا إلا نادراً"، ثم يضيف متسائلاً: "ما عسى لطفلٍ مثلي أو غلامٍ في مثل سني أن يعمل وهو ضئيل الجسم لا يُحسن كتابة اسمه أو جمع أرقام أولية؟!... فلم تجد والدتي سوى عملٍ لي في مقهى للقيام بالخدمات التي يحتاج إليها".***• إلى أن حدثت النقلة النوعية في حياته، حينما التحق مع أمه بخاله في جدة، وهنا يبدأ فصل جديد، إذ واجه في مسيرة حياته الكثير من التحديات والصراعات، لينتهي إلى تسنمه مكانته الأدبية المرموقة في الحياة الثقافية المعاصرة في تاريخ المملكة.