على مدى سنوات طوال، ما استمعت يوماً إلى نشيد "أخي جاوز الظالمون المدى" إلا وأرهقتني أحمال العبارة، ولوعتني موحيات اللحن، وتسلل الدمع إلى عيني دون استئذان.أحاول أن أجاهده لأخفيه استحياء به، فيأبى إلا أن يفضحني النشيج، لينسكب الدمع حاراً هتوناً نقياً، يغسل الصدر، يريح القلب، يخمد اللهب، ثم يذهب بي بعيداً، ويذهب بي طويلاً، في تحديق بطعم الأسف والندم والفراغ.
كنت أحسب ذاك الدمع ضعف أعصاب، فيض عاطفة، نوعاً من تأنيب الضمير.أمس الأول، تابعت على الشاشة الصغيرة احتجاجات بغداد.في طرف التظاهرة العارمة الغاضبة، كانت فرقة من الصبايا والشباب ينشدون "موطني... موطني".بدأوا النشيد بصوت كأنه أذان الفجر، ثم ما لبث أن اختنق رويداً رويداً في حناجرهم، بعد أن أغرق الدمع مآقيهم، ليصبح أشبه بأنين الجريح العطِش.تذكرت بكائي اللا إرادي مع نشيد الظالمين الذين تجاوزوا المدى، وعرفت آنذاك أنه القهر لا الضعف.هو الانكسار لا التأنيب ولا الاستغفار.هو هول الراجفة لا ضعف العاطفة.وعرفت آنذاك أن دمعي ودمعكم هو من دموع نصر بن سيار يبث همومه وشجونه من خراسان.هو من عبرات مروان بن محمد يودع الشام بعد أن خسر حران.هو من بكاء المعتمد بالله يغادر قرطبة ناعياً مسلمي الأندلس.من زفرات الأم التي غيب البحر ابنها في هجرة يائسة فوق قارب مجنون، يبحث عن وطن، عن كرامة، عن خبز.من دموع فقراء عكار في ساحة الشهداء، ودموع أطفال اليمن في صنعاء، ودموع أطفال سورية تحت كل سماء.يا شباب بغداد أمس الأول رأيت حزنكم يخنق صوتكم، فشرقت بالدمع وأنا أردد معكم: "موطني... موطني".
أخر كلام
موطني... موطني
05-11-2019