في الأسبوع الماضي، ألقى السفير الروسي في أستراليا، أليكسي بافلوفسكي، خطاباً بارزاً في الجامعة الوطنية الأسترالية حول الراحل يفغيني بريماكوف، المهندس الاستراتيجي ووزير الخارجية الروسي السابق. نظراً إلى مضمون خطابه، من الواضح أن صانعي السياسة والنقاد والرأي العام على حد سواء قد يستفيدون كثيراً من فهم مقاربة بريماكوف في شؤون الأمن الدولي والكفاءة السياسية.اشتكى السفير بافلوفسكي من «الجهود الرامية إلى إنشاء نموذج أحادي القطب»، لكن لا يمكن التأكيد على محاولات إنشاء بنية أحادية الجانب بعد الحرب الباردة، بقيادة الولايات المتحدة، لم يتوقع الخبراء انهيار الاتحاد السوفياتي، ومازلنا نتجادل حتى اليوم حول مسار ذلك الانهيار ونخوض نقاشاً غير نافع حول هوية الرابح والخاسر، مع أن الوضع يستدعي تحليل سبب ما حصل، لقد علّمتنا الأحداث التاريخية أن التحولات الحاصلة على مستوى النفوذ عناصر أساسية وغير مفاجئة من التطورات العالمية.
عملياً، زال الخصم (أي الطرف الذي شكّل لفترة قطباً آخر من الجهات النافذة) من الوجود بين عشية وضحاها، لم ينجم فشل النموذج أحادي القطب الذي رسم معالم حقبة ما بعد الحرب الباردة عن الازدهار الاقتصادي الصيني، أو تجدد نفوذ روسيا في عهد فلاديمير بوتين، أو «التراجع» الأميركي مقارنةً بتلك التحولات، بل كانت البنية الأحادية القطب مجرّد مؤشر ينذر بنشوء بنية متعددة الأقطاب كتلك التي بدأت تظهر راهناً.تتضح أهمية بريماكوف في هذا المجال بالذات، فقد توقّع أن ترتكز هذه البنية متعددة الأقطاب على مبادئ الاكتفاء الذاتي، والاستقلال، والانفتاح، والتماسك، لا عجب إذن في أن تكون هذه العوامل ركائز السياسة الخارجية الروسية في عهد بوتين.تكلّم بافلوفسكي عن القاعدة الاقتصادية المتنامية في بلدان مثل روسيا والصين والهند، وبعد زيادة نفوذ هذه الجهات، من حقها برأيه أن تطالب بتوسيع دورها في صنع القرارات العالمية داخل بنية متعددة الأقطاب، لكن لا بد من بذل جهود كثيرة قبل بلوغ تلك المرحلة.أولاً، لا تزال المؤسسات المعنية بصنع القرار تتكل على منظمات ما بعد الحرب العالمية الثانية، علماً أنها لم تكن مُصمَّمة كي تناسب الالتزامات متعددة الأقطاب. تتعدد أقطاب النفوذ في النظام الناشئ، منها الدول الآسيوية والإفريقية التي لم تتواجد في هيئات رسمية مثل مجلس الأمن. لذا يحتاج النظام متعدد الأقطاب إلى تجديد مؤسساته كي تتماشى أدوات صنع القرار مع هذا الهدف، مثلما صرّحت وزيرة الخارجية الأسترالية ماريز باين في خطابٍ لها ألقته مؤخرا.ثانياً، يتطلب أي نظام جديد ومتعدد الأقطاب قواعد مستحدثة حتماً، من وجهة نظر بافلوفسكي، بدأ الغرب «يخسر الامتياز الذي يجعله الطرف الوحيد القادر على رسم معالم الأجندة العالمية»، حيث «تُبتكَر القواعد ويتم جمعها بطريقة انتقائية، بناءً على الحاجات العابرة للمسؤولين عنها». لا أحد ينكر أن النظام الراهن المبني على القواعد هو نتاج مفاهيم غربية ترتبط بالمعايير الديمقراطية الليبرالية وتخدم المصالح الغربية. نتيجةً لذلك، استفاد الغرب كثيراً من صياغة القواعد والمطالبة بها، مع أن أستراليا كانت لتستفيد من فعل ذلك بنفسها.كذلك، يعمد الغرب إلى التحايل على نظام قواعده، ويعتمد معايير مزدوجة، ولا يحاسب نفسه. ماذا عن انتهاكات حقوق الإنسان في الصين؟ أو جزيرة مانوس؟ أو كبح المجتمع المدني الروسي؟ أو قانون تشفير البيانات والضغط على الصحفيين في أستراليا؟يطرح بافلوفسكي حجّة مناسبة حين يذكر أن «التكلم عن نشوء عالم متعدد الأقطاب يشير أولاً وأخيراً إلى آسيا». هو محق تماماً! تشمل منطقة آسيا والمحيط الهادئ أقطاب نفوذ متعددة في النظام الناشئ. ويرتبط توجّه روسيا نحو هذا المحور أصلاً بأولوياتها الاقتصادية لا الجيوستراتيجية. ورغم العقوبات الغربية والركود الاقتصادي المحلي، زادت موسكو حصتها في اقتصادات منظمة «التعاون الاقتصادي لدول آسيا والمحيط الهادئ» في قطاع التجارة الخارجية الروسية من 23 إلى 31%. كذلك، يظن بافلوفسكي أن روسيا «لا تنوي التوقف عند هذا الحد»، فقد أصبحت جزءاً دائماً من المنطقة المجاورة لأستراليا، ومن المتوقع أن تتوسّع بصمتها. ويستحق هذا الواقع أن تعيد كانبرا النظر بسياستها تجاه روسيا.حافظ بوتين على إرث بريماكوف، ولا تزال الاستراتيجية الروسية اليوم براغماتية ومتوقعة وغير مفاجئة، ويبدو أن رئيس الوزراء الأسترالي سكوت موريسون يراجع بدوره كتابات بريماكوف. ربما عكست دعوة موريسون إلى «العولمة العملية» صيغة بريماكوف عن السياسة البراغماتية من باب المصادفة المحضة، لكن لا يمكن إنكار التشابه اللافت بين خطاب بافلوفسكي ومحاضرة موريسون في معهد «لوي»، التي ألقاها منذ أيام.عبّر موريسون عما يتوقعه الروس بشأن «الحفاظ على فردية الدول المستقلة ضمن إطار من الاحترام المتبادل»، ودعت ملاحظاته حول «العولمة السلبية» النظام الدولي إلى «الاصطفاف وإقامة التزامات مشتركة بدل أن يُوجّه الآخرين ويتمسك بسلطته المركزية». هذه الفكرة تشتق مجدداً من مقاربة بريماكوف التي تُعتبر اليوم أهم أداة استراتيجية بيد بوتين.حتى الآن، تنشغل كانبرا بخيار خاطئ بين الصين والولايات المتحدة، لكن لو ارتكزت السياسة الخارجية الأسترالية بالكامل على مبادئ المصلحة الوطنية التي حددها بريماكوف، لكانت طوّرت استراتيجية تخدم مصالحها الاقتصادية في علاقتها مع البلدَين معاً، تزامناً مع إقامة علاقات دفاعية مع قوى أخرى في المنطقة، على غرار اليابان، أو الهند، أو فيتنام، أو كوريا الجنوبية.عملياً، يشكّل خطاب بافلوفسكي فسحة ضرورية لصانعي السياسة الأسترالية، بدأ النظام الدولي يتحوّل إلى عالم متعدد الأقطاب، بما يشبه ما تصوّره بريماكوف قبل عقود، وبناءً على سياسة خارجية مستقلة، قد تتمكن أستراليا من أداء دور حاسم في منطقتها. كذلك، يجب أن يصبح الحوار الروسي الأسترالي عنصراً أساسياً من أي سياسة خارجية مستقلة تُصمّمها كانبرا. يبدو أن التحدي الوشيك يتعلق بكيفية التعامل مع موسكو خدمةً للمصالح المشتركة بين البلدَين، تزامناً مع تطوير قدرات أستراليا لكبح روسيا حين تفرض عليها المصالح الوطنية هذا الخيار.في هذا المجال، يجب أن تتعلم كانبرا دروساً كثيرة من التقارب الحاصل بين بكين وموسكو، إنها علاقة براغماتية تحكمها مصالح مشتركة في بعض الأماكن، لكن تحدّها في الوقت نفسه مصالح وطنية متعارضة في أماكن أخرى.في نهاية المطاف، كان سكوت موريسون محقاً حين قال: «يجب أن تعكس القواعد والمؤسسات التي تدعم التعاون الدولي وجهة العالم المعاصر، وبعبارة أخرى، لا يمكن تحديدها مرة واحدة ثم نسيان أمرها». ولا شك أن بريماكوف وبوتين وبافلوفسكي يوافقونه الرأي، وربما يجب أن يتواصل موريسون مع بافلوفسكي ليتعلّم منه... بعدما تأخذ كانبرا إذن واشنطن طبعاً!
دوليات
طموحات روسيا في عالم متعدد الأقطاب
08-11-2019