خلال الأيام القليلة الماضية، دار حوار بيني وبين الصديقة العزيزة الكاتبة الروائية عالية ممدوح بمنفاها في باريس. كانت عالية مكلومة ومتقطعة بألمها لما يجري في بلدها العراق، ومكلومة ومتقطعة لرؤيتها دماء الأبرياء الذين يواجهون بصدور عارية رصاصا حيا وغادرا وقاتلا. ومكلومة ومتقطعة أكثر من هذا وذاك بعجزها عن فعل شيءٍ حقيقي، على مستوى الكتابة الإبداعية أو التقريرية، يوازي ولو جزءاً من التضحيات العظيمة التي ينهض بها أناس بسطاء، قدموا على أرض الواقع بطولات وتضحيات عجزت عنها المجاميع العربية التي تُنظّر للفكر وقضايا المجتمع. وهي ترى عجزها الإبداعي والأدبي، لكون فانتازيا وجنون وعدوانية ووحشية وتضحيات الواقع أكبر بكثير وبمراحل مما يمكن أن يرصده قلم أو تخطّه كلمة.
تشعّب حواري والعزيزة عالية، وكيف أن المبدع؛ قاصا وروائيا وشاعرا ومسرحيا وفنانا تشكيليا وسينمائيا، لا يحاكي قضايا الواقع إلا عبر أدواته، وكيف أن طلقة القنّاص الغادرة، تفعل فعلها القاتل لحظة تنطلق لتُنهي حياة إنسان، بينما طلقة الكلمة تتخلل قشرة الواقع لتستقر في أرض الفكر الإنساني ريثما تفعل فعلها وتُحيي شيئاً في روح الإنسان وعزيمته. وأن الطلقة تموت لحظة تنطلق، في حين أن حياة الكلمة تبدأ حين تخرج إلى الناس. وأخيراً اتفقنا، عالية وأنا، أن ليس لنا إلا قشّة شيءٍ من أمل قد يتحقق على أيادي هؤلاء العظماء الذين نذروا أرواحهم رخيصة للثورة والتغيير، وأننا ليس لنا سوى المشاركة الإبداعية بكلمة أو عمل أدبي.حديثي وحواري مع عالية ممدوح، هو امتداد لمقالات سابقة كتبتها هنا على صفحة "الجريدة"، وفي أماكن أخرى، وتتناول الحراك الشعبي العربي في أكثر من قطر: سورية واليمن والعراق وتونس ومصر والسودان والأردن والجزائر وأقطار عربية أخرى. حراك الإنسان العربي حين تضيق به دائرة عيشه اليومي لدرجة الخنق، فيُقدم على حرق نفسه أو شنقها، أو الخروج عاري الصدر لمواجهة الموت. وكيف أن دور المثقف عبر التاريخ البشري، لم يكن أكثر من مشاركته ووقوفه إلى جانب الحق، وإلى جانب قضايا الإنسان العادلة، وإن أي مبدع لا تعدو مهمته المقدسة أكثر من مشاركة ومساندة الإنسان المظلوم والمقهور والمهمّش في دفع الظلم الواقع عليه. ولو اختلفت الطرق، بين مشاركة فعلية في ميدان الثورة والقتال، وبين كتابة منشور أو بيان سياسي، أو كتابة رواية أو قصة أو قصيدة أو لوحة أو فيلم سينمائي أو مسرحية.قناعتي الشخصية كانت ولم تزل، وفي السّلم والحرب، أن قلم أي مبدع أقل وأصغر بكثير من أن يلُمّ بسماوات وأراضي الواقع، وأن كل ما خطّته البشرية وتركته من إرث فكري وفني وأدبي لم يكن إلا محاكاة صغيرة لعوالم الكون والحياة الشاسعة والمترامية الظاهرة والخفية. وبالتالي، فإن فعل ومشاركة المبدع والمثقف الفرد الإبداعية والفكرية والثقافية أثناء الحراك الشعبي الثوري، هي واجب وضرورية، لكنها أقل بكثير من أن تصل إلى عظمة التضحيات التي يقدّمها الثوار، الذين يواجهون الموت بالتحدي والصمود.إن دور المفكر والمبدع والأديب أثناء الحروب والأزمات، بقدر ما هو دور كبير وإنساني ومهم وواجب مقدس، بالقدر نفسه، هو دور محسوب، فيجب ألّا يتخلى المفكر والمبدع الإنسان عن إنسانيته في دعم القضايا العادلة، والوقوف معها قلباً وقالباً، لكن في المقابل يجب ألا تأخذ هذه الثورات العظمية الفنان إلى شيء من احتقار دوره التاريخي، ولا تقذف به على شاطئ اليأس والخذلان. فثورة الإنسان على الظلم والدكتاتورية والعدوان هي جزء من مسيرة البشرية، وهي على الدوام حاضرة حضور حياة الإنسان. ولذا يجب على المفكر والمبدع أن يبارك أي حركة ثورية شعبية تطمح إلى الأفضل الإنساني، وإلى مزيد من العدالة والحرية والعيش الكريم، وأن يقول كلمته عبر أدواته الإبداعية مهما غلا ثمنها.ملاحظة: نُشر في مقال الأسبوع الماضي أن معرض الكويت الدولي للكتاب انطلق في عام 1977، والصحيح هو أن أولى دوراته انطلقت عام 1975، مما استلزم التصويب.
توابل - ثقافات
طلقة الكلمة... طلقة القنّاص
13-11-2019