انقسامات داخلية تؤكد القبَلية السياسية في أميركا
من المستحيل معرفة ما يجري في الجانب الآخر من التحقيق في قضية "ترامب وأوكرانيا" وكيف سوف تكون ردة فعل الرئيس مع ظهور أدلة جديدة؟ وكيف ستنطلق المحاكمة في مجلس الشيوخ؟ وكيف سوف يكون تأثيرها على الانتخابات الرئاسية العام المقبل.
تنقسم وجهات نظر الأميركيين حول ادانة الرئيس دونالد ترامب ضمن مسارات حزبية واسعة، وقد أظهرت معدلات آخر استطلاعات الرأي التي نشرت في الولايات المتحدة أن 84 في المئة من الديمقراطيين يؤيدون الآن ادانة الرئيس وهي نسبة تقارب أعلى مستوى منذ شهر أغسطس من العام الماضي نشرها أحد مواقع استطلاعات الرأي حول هذا الموضوع. وفي المقابل أظهر الاستطلاع الأخير تأييد 11 في المئة فقط من الجمهوريين للإدانة وهي نسبة ظلت ثابتة طوال الثمانية عشر شهراً الماضية. وعلى أي حال فإن هذه الفجوة في وجهات نظر الديمقراطيين والجمهوريين تشير الى أكثر من مجرد النظرة الحزبية – فهي أحدث دليل على أن القبلية السياسية قد هيمنت بشكل تقريبي على كل جانب من حياة الشعب الأميركي.وبحسب بحث للعلوم السياسية في الولايات المتحدة لم تعد نسبة واسعة من الأميركيين تشعر بتشاطر الهوية الوطنية، ويرى أعضاء الحزبين الجمهوري والديمقراطي خصومهم في السياسة على شكل أعداء لديهم معتقدات غير مستساغة وأساليب حياة غير عادية الى حد كبير. وفي ما يتعلق بإدانة الرئيس ينظر أعضاء الحزبين الى القضية بصورة راديكالية مختلفة تماماً ليس فقط بسبب اختلاف الآراء السياسية فقط بل في كيفية التعاطي مع متطلبات الحياة أيضاً، وقد تعجل إجراءات الإدانة الوشيكة وضعية الاستقطاب في الولايات المتحدة وتترك أعضاء الحزبين الجمهوري والديمقراطي وكل شخص آخر بين مشاعر شك متزايدة ازاء الآخرين.وعندما سألت ميشيل مارغوليس وهي عالمة سياسة في جامعة بنسلفانيا عن كيفية تأثير ادانة الرئيس على الاستقطاب في البلاد لم تتردد في الاجابة بأن الادانة سوف تفضي الى حصيلة ضخمة. وتعمل الديمقراطية الأميركية عندما يتمكن كل جانب من الاعتراف بالطرف الآخر ويقبل النتيجة عند تعرضه لخسارة. وخلال العقدين الماضيين على وجه التحديد تم تقويض ذلك الاحترام المتبادل بصورة بارزة ويرجع ذلك في جزء منه الى أن الأميركيين صنفوا أنفسهم ضمن معسكراتهم السياسية بصورة تامة وقالت مارغوليس: « نحن الآن في عالم لم نعد في حاجة فيه الى التحدث مع أشخاص يختلفون معنا في السياسة «، مضيفة: « ولكن من المهم أن نتفاعل مع أشخاص لا يشبهوننا في الشكل ولا يفكرون مثلنا – وتلك هي طريقة الاعتراف بالطرف الآخر كشعب مع تحمل وجهات نظره السياسية المغايرة «.
ويتحمل ذلك التصنيف الواسع المسؤولية بشكل جزئي عن وجهات النظر التي برزت في ما يتعلق بادانة الرئيس، ولا يصدق أعضاء الحزب الديمقراطي أن الجمهوريين يريدون مسامحة ترامب عن أي شيء بما في ذلك الطلب من زعيم دولة أجنبية التحري عن عائلة أحد خصومه السياسيين. ومن جهة اخرى يرى الجمهوريون في المرحلة الأخيرة من تحقيقات الادانة خدعة حزبية من جانب الديمقراطيين الذين يسعون بشدة الى انهاء رئاسة ترامب، وهذه ليست الطرق التي تفضي الى ترجمة مجموعة الحقائق ذاتها وهي فهم منفصل بشكل تام للواقع مبني على سوء نية الطرف الآخر. وتقول مارغوليس: « إذا كنت تعتقد حقاً أن هذه مطاردة ساحرة وليس لدى الديمقراطيين أي مأخذ على الرئيس ترامب فمن الأسهل أن تشعر بالغضب من الطرف الآخر، وأن تشعر بالتالي بعداوة نحوه».
دور الاستقطاب الحالي
وبحسب بحث صدر عن عالمين من جامعة كارولينا الشمالية في تشابل هيل هما مارك هيذرانغتون و جوناثان ويلر فإن افتراضات الأميركيين حول سوء نية خصومهم السياسيين متجذرة في أشياء أعمق من الانتماء الحزبي. والناس في الجانب المقابل من المنظور السياسي ليس لديهم وجهات نظر دولية وهو ما يجعل من الصعب بالنسبة اليهم رؤية أي شيء شرعي في وجهات نظر خصومهم السياسيين. ويمكن فهم وجهة نظر هيذرانغتون وويلر التي تتحدث عن الأميركيين من ذوي التوجه الأكثر محافظة أو «المحدد» القيمة ازاء اطاعة أولادهم وقوة قادتهم. وهم في أغلب الأحيان يخشون العالم من حولهم ويقدرون الاستقرار والتقاليد بقدر يفوق التغيير. وبالمقارنة فإن الأميركيين من ذوي العقلية الأكثر ليبرالية أو النظرة الأكثر «مرونة» يكافحون من أجل تربية أطفال يتمتعون بالاستقلال والفضول ويرون أن التسامح هو الخصلة الأكثر نبلاً وقيمة التي يمكن للقائد التحلي بها. وهم يعتقدون بضرورة مساءلة السلطة وينفرون من عروض العنف والقوة. ويساعد هذا الانقسام الحاد في النظرة الدولية على شرح الديناميكية الحالية في واشنطن حول ادانة الرئيس ترامب، والسؤال هنا: لماذا يشعر الناس بهذا القدر من الغضب؟ ولماذا يقوم كل طرف بصورة آلية باحتساب كل كشف جديد على شكل دليل لقضيته؟ وقال هيذرانغتون: عندما يشعر الناس بكراهية نحو الطرف الآخر بهذا الشكل سوف يقاومون أي شيء وأي نوع من المعلومات التي سوف تكون مفيدة بالنسبة الى الطرف الآخر «وتحيز الأميركيين الحزبي يتسم بالقوة حتى في غياب المجادلات المضادة القوية بالنيابة عن الرئيس، ونحن لا نشهد حركة في الرأي العام تتعلق بالادانة».دور الاستقطاب الحالي
ثم إن عمق الاستقطاب الأميركي هو الذي يجعل هذه التحريات عن الادانة مختلفة تماماً عن تلك التي واجهها الرئيس الأسبق ريتشارد نيكسون في سبعينيات القرن الماضي وبيل كلينتون في التسعينيات. ويقول ويلر: « قبل 45 سنة لم تكن هذه الفكرة الحزبية مترسخة في وجهات نظر العالم الأساسية والنفسانية» كما أن الحزبين لم يدفعا السياسة الى ميادين الاختبار حول الاجهاض وغير ذلك من القضايا المثيرة للاهتمام. وكانت مناظرات السياسة مجرد مناظرات تنطوي على الاحترام والتسوية بشكل أو بآخر. وفي عهد الرئيس كلينتون بدأت هذه الديناميكية بالتحول على مستوى النخبة ويقول هيذرانغتون إن أعضاء الحزبين لم يصنفوا أنفسهم على أساس الاختلافات الأساسية في وجهات النظر الدولية «والتزاوج بين وجهات النظر الدولية والحزبية هو الذي يخلق هذا السوء في السياسة – وهو تزاوج متقلب ومتفجر في أقل تقدير».وتجدر الاشارة الى أن كل شخص في الولايات المتحدة لا يمكنه الانضمام الى معسكري التحديد في مواجهة المرونة والمحافظة في مواجهة الليبرالية والجمهوريين في مواجهة الديمقراطيين. وتعج البلاد بأشخاص من ذوي الهويات والمعتقدات المختلطة ويشغلون مواقع في وسط المنظور السياسي، ولكن حياتهم لاتزال متأثرة بالأشخاص الذين يتحدثون في الاذاعة ويتابعون مواقع حزبية على الإنترنت ومحطات اخبارية مثل ام اس ان بي سي أو فوكس نيوز. ويشبه هيذرانغتون وويلر هؤلاء بالمدخنين الذين يلحقون الضرر بالبيئة حولهم.ويجعل هذا التأثير من الصعب على الناس في المنطقة الرمادية من السياسة تقييم الدليل والتوصل الى قرار وهي عملية تنطوي على أهمية خاصة في القضاية الجوهرية مثل الادانة. ومن المستحيل معرفة ما يجري في الجانب الآخر من هذا التحقيق – وكيف سوف تكون ردة فعل الرئيس ترامب مع ظهور أدلة جديدة وكيف سوف تنطلق المحاكمة في مجلس الشيوخ؟ وكيف سوف يكون تأثيرها على الانتخابات الرئاسية في العام المقبل، ولكن هناك حصيلة تبدو مؤكدة، وهي أن هذه المعركة المريرة سوف تجعل من الأكثر صعبة على الأميركيين أن ينظروا الى خصومهم السياسيين على شكل مخلوقات منطقية. *إيما غرين
آخر استطلاعات الرأي في الولايات المتحدة تشير إلى أن 84% من الديمقراطيين يؤيدون إدانة ترامب في مقابل 11% من الجمهوريين
الفجوة في وجهات نظر الديمقراطيين والجمهوريين تشير إلى أكثر من مجرد النظرة الحزبية فهي أحدث دليل على أن القبلية السياسية قد هيمنت على كل جوانب حياة الشعب الأميركي
الفجوة في وجهات نظر الديمقراطيين والجمهوريين تشير إلى أكثر من مجرد النظرة الحزبية فهي أحدث دليل على أن القبلية السياسية قد هيمنت على كل جوانب حياة الشعب الأميركي