تعرت هي سريعاً ورمت بأوراقها بدرجات الأصفر أو ما بينه وبين الأخضر الباهت، خففت من حملها ووقفت تناطح السماء أو تتطلع إليها وهي تدرك أن بعض الغيم خير وكثيره سيل، باتت عصافيرها تبحث عن ورقة تلتحف بها من نسمة باردة وزخات مطر خفيفة، الأشجار تعرف أنها أجمل كلما تنوعت وتغيرت، وتعرف أن بقاء الحال صعب، ويدعو للكسل غير الممتع لا ذاك اللذيذ بعد يوم تعب.تغطت الأرض تحت أقدام الشجرة تلك، لبست ثوبها الجديد وخلقت جمالاً لا يعرفه إلا المبدعون، فالمارة قد اعتادوه أو ربما لا يشكل لهم هذا الطقس إلا فصل شتاء قد يطول بعض الشيء، ويشتاقون هم لدفء أشعة الشمس التي تمنعها الغيوم الحبلى بالمطر من أن تضيف بعض الدفء إلا أحيانا.
تقف الأغصان حضناً للعصافير التي خاوتها طويلاً حتى لو لم تعد قادرة أن تمنحها عشاً تضع فيه صغارها أو تحتمي به من أعين الصيادين الذين يعتبرون أن صيد العصافير هواية، في حين يقول لهم ذاك "استضعفوك فقتلوك، ليتهم قتلوا الذئب". كثير ممن عرفوا هذا الطقس رسموه في لوحات أو مخيلة أو ربما في قصيدة شعر أو أغنية، هم يتغنون به كموسم آخر للعشق رغم ألا موسم للعشق، فكل العصافير تحمله معها في هجرتها وترحالها.في حين يتلون الشجر فإن البشر يفضلون اللون الواحد، يكرهون أو يتعبون من التغيير، بل بعضهم يردد "الله لا يغير علينا"، وكأن في التحول شيئاً من الفناء بدلا من أن يكون ولادة جديدة. لا يحب البشر أن يعاشروا إلا من يشبههم، لا يعرفون أن يتعايشوا إلا من ضاق طعم اللون الواحد القاتل! يبقون حريصين على ما لديهم حتى عندما يضطرون للرحيل بعيداً بحثاً عن حياة أفضل، وتبدو أوطانهم ذكرى جميلة، فيعزلون أنفسهم عن المجتمعات التي يرتحلون لها منطلقين من مبدأ أنها تحمل لهم كل ما هو خير، يقسمون الخير أقساماً، فلقمة العيش أو رفاهيته أو تقدير تلك المجتمعات لهم ومنحهم ما لا يحلمون به كثيراً، وهو أن يكونوا على الدرجة نفسها في الحقوق والواجبات، كما المواطنون الأصليون الذين ولدوا على تلك الأرض البعيدة. يتجمعون في كانتونات، كلهم يتشابهون في اللبس والطعام والعادات، يبقى للرجال فضاءاتهم، وللنساء الغسل والطبخ وتربية الأطفال، هم يخافون أن يقضي التغيير على ما تبقى لهم، يلتصقون بعادات لا تلائم المجتمعات الجديدة، بل ينتقدونها وكأنهم يختارون منها ما يشاؤون، تعجبهم الحرية واحترام الحقوق والأجور وفرص العمل، ويكرهون أن نساءها "عاريات" كالأشجار في موسم خريفهم! ودورها قد تخطى تلك الجدران التي خلقت "لتحميها" من الذئاب البشرية حتى يرقدونها في شبر من تراب.وماذا عمن بقوا هناك في الأوطان البعيدة المعجبين بكل شيء قادم من العواصم المزينة بتلاوين الحياة المتنوعة؟ ماذا عنهم؟ هم أيضا يختارون من ذاك ما يبقيهم على ما هم عليه. لا يريدون الحريات ولكن يستهلكون كل ما يكتشف ويصنع هناك، لا يريدون حرية تعبيرهم ولا الحق في الاختيار والاختلاف ولا القانون المستقل الذي يحمي حقوق الفرد والمجتمع وأجهزة الرقابة على الفساد لا على القبل البريئة! يريدون نساء في فاترينات الوزارات والمراكز ليرددوا: ماذا تريدون منا، ها هي نساؤنا تتساوى في المراكز! وأحيانا يرددون نحن أيضا ديمقراطيون جداً عبر صناديق بالية اعتقد بعضهم أنها أصل الديمقراطية والتعبير الوحيد عنها في حين أجهزة الأمن تطارد المغرد الذي يطرح رأياً آخر أو خطاباً لا يتماشى مع الكلام المكرر على التوتر والرافض للآخر، بل الذي ينفي وجوده وأحيانا يطالب بطرده من "جنات" الوطن غير مدركين أن المواطنة هي الأخرى من الحقوق التي لا حقّ لأحد بأن يغتصبها كما نسائهم!لا يتعلمون هم من الشجر رغم أنه يسكن على مقربة من بيوتهم وشوارعهم ومراكزهم التجارية الفارهة، بل إن بعضهم تحدى الطبيعة وخلق حدائق داخل تلك المراكز، وكأنهم يقولون نحن نقدر بأموالنا المتراكمة أن نأتي بالأمازون إلى الصحراء والقطب المتجمد عند أبوابنا. ليتنا نعرف أن متعة الشجر في تلاوينه واختلافاته وكذلك البشر، فلا اللون الواحد ولا الرأي الواحد يخلقان أوطاناً لا تهرب منها العصافير والنوارس.* ينشر بالتزامن مع"الشروق" المصرية
مقالات
ليتهم كالشجر *
18-11-2019