ماكرون يتحدى نزعة أوروبا إلى إنكار الواقع
لم يكسب ماكرون إلا عدداً صغيراً من الحلفاء داخل الاتحاد الأوروبي بعد طرح آرائه، وترفض بولندا ودول البلطيق ودول أعضاء أخرى اقتراحاته بشأن طريقة التعامل مع الناتو، وكبح سياسة التوسع، وإعادة ضبط العلاقات مع روسيا، ودفع الاتحاد نحو المزيد من التكامل.
حين اعتبر الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون حلف الناتو في حالة "موت دماغي"، أثار حفيظة الجميع في أنحاء أوروبا، على أمل أن يضخّ فيها جرعة من الثقافة الاستراتيجية، لكن لم يتقبّل الكثيرون موقفه، بل تعرّض لانتقادات لاذعة وبقي التجاوب معه ضئيلاً.على الأوروبيين أن يتخذوا قرارهم: إما أن يتابعوا دفن رؤوسهم في الرمال أو يبدؤوا بأخذ وضعهم الأمني والدفاعي على محمل الجد.إذا فضّلوا الخيار الأول فسيخسر الاتحاد الأوروبي أهميته في المنطقة ويبتعد عن المسائل المحورية بدرجة إضافية، وإذا فضّلوا الخيار الثاني فسيضطر قادة الاتحاد الأوروبي إلى تعزيز تكاملهم السياسي والاقتصادي، ومن دون تنفيذ هذا الشرط من الأفضل أن ينسى الاتحاد مهمة تطوير ثقافة استراتيجية مشتركة، أو حتى التعامل مع توسّع قوة الصين واستمرار النفوذ الروسي في أوروبا.
هذا هو فحوى تحليل ماكرون لمجلة "إيكونوميست" في 7 نوفمبر، فعكست تلك المقابلة صفات ماكرون، وكانت صريحة ومباشرة ولاذعة، وتزامنت مع احتفالات ألمانيا بالذكرى الثلاثين لسقوط جدار برلين وإعادة توحيد البلد في المرحلة اللاحقة.حرص السياسيون الألمان على تجديد التزامهم بزيادة حجم الإنفاق في مجال الدفاع، وأشادوا بالدور الأميركي في أحداث العام 1989، وأكدوا ضرورة تقوية العلاقات العابرة للأطلسي. إنها مواقف مُطمئِنة حتماً، لكن يظن ماكرون أن الواقع اليوم يجب أن يُقابَل بأفعال ملموسة في أقرب وقت ممكن. هذا ما يفسّر انزعاج الأوروبيين: هم مضطرون للقيام بخيارات صعبة. تتعلق المسألة الأولى بحلف الناتو، فخلال المقابلة الأخيرة اعتبره ماكرون في حالة "موت دماغي"، مما أثار استياء عدد كبير من البلدان الأوروبية، وسارعت بولندا ودول أخرى إلى الدفاع عن الناتو، فهي تخشى أن تضعف روابط أوروبا مع الحلف والولايات المتحدة، بقيادة فرنسا، وأصبحت تلك الروابط متوترة أصلاً، ولا يقتصر السبب على انتقاد ترامب للأوروبيين، على اعتبار أنهم لا يبذلون أي جهود كبرى ويستفيدون من الضمانات الأمنية الأميركية من دون مقابل. كان سلفه أوباما ينتقد الأوروبيين أيضاً، لكن بأسلوب لبق. من خلال تحليل وضع الناتو بهذه الطريقة الصريحة، أراد ماكرون أن يحذر الأوروبيين ويدعوهم إلى الاستعداد، فإذا افترضنا أن الناتو بقي قائماً (إلا إذا قرر ترامب عكس ذلك في حال أُعيد انتخابه)، يجب ألا تتردد أوروبا في الدفاع عن نفسها بنفسها، لكن لا داعي كي تتنافس مع الناتو، فهي لا تستطيع تولي هذا الدور أصلاً، وتفتقر إلى الإمكانات العسكرية وإلى ثقافة استراتيجية مشتركة. لقد أصبحت أوروبا ضعيفة بسبب هذا النقص بالذات، لذا يُفترض أن يشجّع داعمو الناتو في الكونغرس الأميركي أوروبا على تطوير بنى دفاعية وأمنية قوية لأن الحلفاء الضعفاء عبء مكلف ويسهل استغلالهم.تحتاج أوروبا إلى تعزيز تكاملها السياسي والاقتصادي لتقوية موقعها الدفاعي، وماكرون يدعو إلى تحقيق هذا الهدف منذ توليه منصبه في مايو 2017، وفيما يخص دول غرب البلقان، لا يستطيع الاتحاد الأوروبي برأيه التوسّع بدرجة إضافية قبل أن ينظّم شؤونه أولاً. لم يكسب ماكرون إلا عدداً صغيراً من الحلفاء داخل الاتحاد الأوروبي بعد طرح آرائه، وترفض بولندا ودول البلطيق ودول أعضاء أخرى اقتراحاته بشأن طريقة التعامل مع الناتو، وكبح سياسة التوسع، وإعادة ضبط العلاقات مع روسيا، ودفع الاتحاد نحو المزيد من التكامل.لا بأس بانتقاد ماكرون لأنه تحدى وضع المراوحة القائم، لكن لماذا لا يطرح قادة الاتحاد الأوروبي اقتراحاتهم الخاصة بشأن أوروبا؟ والأهم من ذلك، ما موقف ألمانيا من وجهة أوروبا وطريقة دفاعها عن مصالحها؟ فخلال الاحتفالات بالذكرى الثلاثين لسقوط جدار برلين، عبّر جميع الوزراء والمسؤولين الألمان في خطاباتهم عن دعمهم لحلف الناتو والولايات المتحدة، لا سيما بعد هجوم ماكرون القوي على الناتو.وعمد هايكو ماس، وزير الخارجية الألماني الذي نسي على ما يبدو الدور الأميركي في دعم ألمانيا في 1989، إلى التكلم بحماسة مفاجئة عن الناتو والولايات المتحدة، حتى أنه اقترح سابقاً أن تبقى أوروبا، أي ألمانيا تحديداً، خارج الخلاف التجاري بين بكين وواشنطن، وذهب إلى حد إطلاق موقف متساوٍ من الطرفين، وكأنّ ذلك الخلاف لم يؤثر على الاقتصاد العالمي أو كأنّ الولايات المتحدة لم تكن حليفة أوروبا.لكن بدأ جدل آخر عن القيادة الألمانية يتوسّع تدريجاً. إنه جدل غريب لأنه يعني ضرورة التعامل مع مسائل القوة والاستراتيجية والنفوذ، فقد ألقت أنغريت كرامب-كارنباور، وزيرة الدفاع الألمانية وزعيمة "الحزب الديمقراطي المسيحي" (إنها المرشحة الأوفر حظاً لخلافة المستشارة أنجيلا ميركل)، خطاباً عميقاً في جامعة "البوندسوير" في "ميونخ". فاعتبرت أن التكلم عن "ثقافة ضبط النفس يعني مراعاة جميع أنواع الاعتبارات والضوابط". بعبارة أخرى، أرادت أن تقول إن ألمانيا تتهرب من مسؤوليتها، ثم أضافت: "الوضع يدعونا إلى التحلي بالمزيد من الشجاعة"، حتى أنها اقترحت أن تساعد ألمانيا حلفاءها في منطقة المحيط الهادئ والهندي: "يشعر حلفاؤنا في هذه المنطقة بأنهم يزدادون ضعفاً بسبب مساعي الصين لفرض سيطرتها هناك. هم يريدون إشارة واضحة على التضامن، ودعماً للقانون الدولي المعمول به وسلامة الأراضي وطرق الشحن الحرة. حان الوقت كي تعطي ألمانيا إشارة مماثلة وتفرض حضورها في المنطقة إلى جانب حلفائها، ومن مصلحتنا أن نضمن احترام القانون القائم".قد يكون كلامها جزءاً من الردود على اقتراحات ماكرون، لكنه لا يجيب عن تساؤله حول كيفية تنفيذ هذه الأهداف. وحتى معرفة الجواب، سيبقى ماكرون وحيداً وستبقى أوروبا ضعيفة!* «جودي ديمبسي»
أوروبا تحتاج إلى تعزيز تكاملها السياسي والاقتصادي لتقوية موقعها الدفاعي وماكرون يدعو إلى تحقيق هذا الهدف